كانت دعوة نادرة من نوعها، ممدودة من معسكر من هم في مقاعد السلطة لمعسكر المواطنين الغاضبين، وعكست رغبة شعرتها صادقة من رجل نزيه في ألا يُوضع في يوم من الأيام في سلة واحدة مع ثلة من الجنرالات الفاسدين.
ذهبت للزيارة وفي رأسي كل الاحتمالات الممكنة، ولأن
الأمر لا يعنينا بمفردنا بل يعني الشعب كله، دعونا لصحبتنا وفداً من محامي حقوق الإنسان والباحثين السياسيين. سأحكي لكم فيما يلي ما حدث في تلك الزيارة.
عندما كنا طلبة علوم سياسية صغارًا كان أول ما علمونا إياه كتلامذة في الكتب هو أن كلمة المدنيين يجب أن تكون هي العليا فوق كلمة العسكريين في أي نظام ديمقراطي، وأن العسكريين لابد أن يخضعوا لمؤسسات صنع القرار المدنية في كل شيء عدا ما يتعلق بتكتيكات الدفاع، وأنه إن دخل العسكر في مساحات السياسة، فإن ذلك يؤثر سلباً على درجة حرفيتهم وجاهزيتهم لخوض الحروب. شرح لنا أساتذتنا نماذج من دول في أمريكا اللاتينية كانت منكوبة لسنوات طويلة بهيمنة نظم عسكرية جاءت عبر انقلابات متتابعة، لكنها نجحت في التخلص من براثن حاملي السلاح ووضعتهم وسلاحهم هذا تحت تصرف المدنيين، من أجل إقامة حكومات ترتكز بالأساس على رفاهية الشعوب وليس قتلهم. قرأنا أنه إذا كانت كلمة العسكريين تعلو فوق كلمة المدنيين أو حتى موازية لها وتناطحها، إذن توجد مشكلة.
وصلنا مقر الهيئة على طريق «القاهرة-السويس»، وبدا وكأننا فجأة تركنا قاهرة القرن الواحد والعشرين المزدحمة، بإعلانات ومحال العولمة، إلى قاهرة منتصف القرن الماضي. كل شيء في مبنى الهيئة- رغم حداثة إنشائه- يُشعرك بالحقبة الناصرية ويذكرك بها، حتى الماكيتات الصغيرة الملونة للمصانع والمنتجات المعروضة في صناديق زجاجية في بهو البناية، التي تشبه ما نراه في مقر السد العالي مثلاً. فتح لنا أبواب الهيئة العتيقة عند وصولنا مُجند ضئيل الجسد يقف على حراستها في زيه الكاكي.
داخل قاعة اجتماعات مجهزة بشاشة عرض، استقبلنا الفريق حمدي وهيبة بحفاوة وبرفقته مجموعة من مديري الهيئة، من عسكريين سابقين ومدنيين، حضر كل منهم الاجتماع وفي جعبته ملفات وأرقام عرضها علينا، لتُبرئ ساحة الهيئة من تهم الفساد، وتثبت إنصافها الفريد لعمالها وموظفيها. وجدنا الفريق «وهيبة»، على عكس ما هو متوقع من عسكري قديم صارم، شخص لطيف خفيف الدم، يرد على كل أسئلتنا، التي كان أغلبها هجومي، بشكل شارح لأدق التفاصيل.
أوضح لنا الفريق «وهيبة» كيف أن الهيئة قد عدّلت طوعاً من هيكل الأجور بها قبل قيام الثورة لتمنح عمالها رواتب تجاوزت بالفعل الحد الأدنى للأجور، بالإضافة لمدهم بـ«سبل مواصلات خاصة» و«رعاية صحية أسرية بلا سقف»، وأن الصحافة لم تكن دقيقة عندما نشرت خبر اعتصام خمسة عشر ألف عامل بالهيئة في العام الماضي، حيث إن عدد من أضربوا في أربعة من مصانع الهيئة الإثنى عشر لم يتجاوز بضع مئات. طبقاً لسيادة الفريق، فقد أنهت الهيئة أول «هوجة» من موجات الإضراب بمصنع الطائرات التابع لها في فبراير من عام الثورة، من خلال الاتصال بالمجلس العسكري، الذي سارع بإرسال حوالي ٢٠ من جنود «الشرطة العسكرية» لفض الاعتصام.
تصاعد التوتر في الغرفة عندما سألنا سيادة الفريق دون إحراج: «لماذا أنت دون غيرك من المدنيين تشغل هذه الوظيفة، وتدير مصانع تحتاج لمهندسين لا عسكريين، وتمثل المنتجات المدنية ٧٠٪ من إنتاجها والباقي حربي؟»، فرد علينا بأنه «يعتقد أن العسكريين هم أفضل من يجيدون أمور الإدارة، لأنهم يحصلون على تدريبات فائقة طوال مدة خدمتهم، وبالتالي يكونون أكثر تأهيلاً للمناصب العليا عن نظرائهم المدنيين. وأصر على أنه لدى البعض تصوراً خاطئاً بأن العسكر ينتشرون «انتشاراً أخطبوطياً» في مواقع الهيمنة، لكنهم في الحقيقة ليسوا في كل مكان.
لكن بمسحة عين سريعة خاطفة على منشآت الدولة، نجد المتقاعدين العسكريين منتشرين بكل ركن، صَغُر أم كَبُر فيها، في مجالات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وقد لا يفقهون من أمرها شيئاً، «بداية من مصلحة مياه الشرب والصرف الصحي- بجد مش هزار- وانتهاءً بشركات الأتوبيس ومصلحة التليفونات لقناة السويس وشركات البترول وحي العمرانية والدقي ونادي المقاصة الرياضي!». يحتلون بكل عدم استحقاق أماكن «المهندسين والأطباء والمحامين والمحاسبين، بل أماكن السباكين والسائقين والبائعين ولاعبي كرة القدم وبتوع التليفونات!».
بدأ هذا الوضع الغريب العجيب كما نعرف منذ الخمسينيات، لكنه تصاعد في السنوات الأخيرة من حكم المخلوع، بعد فترة طويلة من احتلال النخبة العسكرية لجميع مواقع السلطة تقريباً، في عهد عبد الناصر، بدأ السادات توجهاً لاستبدال العسكر بمدنيين في مناصب الوزراء والمحافظين ومديري القطاع العام. استمر الوضع كما هو عليه في أيام «مبارك»، لكن في أواخر حكمه- وحتى يسترضي العسكر للقبول بابنه كوريث- قام المخلوع بتعيين عدد ضخم من اللواءات والعقداء المتقاعدين في مناصب لا تُحصى عبر بقاع البلاد، وعندما أصبح العسكر هم الحُكام عقب الثورة، طفقوا يعينون أنفسهم يُمنةً ويساراً- من فوق رأس حكومتي عصام شرف والجنزوري منزوعتي الإرادة- في مواقع أكثر وأكثر لإدارة أغلب المنشآت الاقتصادية والمواقع الحكومية فيكي يا مصر.
هل نما إلى علمكم يا سيادة الفريق أن رئيس الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي هو اللواء نصر عرفات، وأن جنرالات آخرين متقاعدين يسيطرون على أفرعها في المحافظات، أمثال اللواء عمرو الوحش، رئيس مجلس إدارة الشركة بالجيزة، اللواء أركان حرب محمود زكي أسعد، رئيس مجلس إدارتها بالأقصر، اللواء حمدي عابدين في المنصب المماثل بالشرقية واللواء محمد بدري في المنصب نفسه في أسيوط، فقد واجه العديد من هؤلاء الجنرالات احتجاجات عمالية، بسبب بخس الأجور تارة وفشلهم في الإدارة تارة أخرى.
ولأن أمر اهتمام القوات المسلحة المصرية بشؤون «الحنفيات والبالوعات» مسألة شديدة الغرابة، فقد تساءلت عن أهمية تلك الشركة، وعرفت أنها شركة ثرية من اشتراكات الأهالي، ولا توجه تلك الأموال- وهو أمر نلمسه جميعاً كشعب مطحون- لمنع طفح البالوعات أو حتى تغطيتها أو لمنع انقطاع المياه المتكرر «بالذات يوم الجمعة الصبح يعني!».
«هل تعرف يا سيادة الفريق أن رئيس شركة النقل البري والبحري، لواء متقاعد محمد يوسف، وأن اللواء منصور الهلباوي يختص بالنقل البري بها، وأن عددًا آخر من اللواءات يقومون على أتوبيسات الوجه البحري والقبلي، ولا أحتاج هنا أن أوضح كم هو مذرٍ وضع تلك الأتوبيسات؟».. «هل تعرف أن وزير الاتصالات عسكري سابق، وأن الشركة المصرية للاتصالات بمجلس إدارتها الأعلى لواء متقاعد».. «هل تعرف أن رؤساء حي العمرانية والعجوزة والدقي ومدير مركز أرمنت ورئيس مدينة حلوان كلهم عسكريون متقاعدون؟».
«هل تعرف أن عصام شرف عين لواءاً كرئيس للبورصة في أحلك اللحظات التي احتجنا فيها لأهل الخبرة وليس الثقة- رغم أن سيادته كان يتحدث في وسائل الإعلام عن نادي المقاصة الرياضي أكثر من حديثة عن الشركة- وأن اللواء عاد بعد أشهر من السقوط الذريع للبورصة لمنصبه الأصلي كرئيس شركة المقاصة لتداول الأوراق المالية، وأن عصام شرف في بداية عهده قام بتعيين مدني في منصب رئيس الهيئة العامة للتنمية الصناعية، لكنه سرعان ما رجع في كلامه وعين بدلاً منه اللواء إسماعيل عبد المنعم نجدي؟».
«هل تعرف يا سيادة الفريق أن رئيس هيئة قناة السويس زميل لك، وهو الفريق أحمد فاضل، الذي خرج آلاف من العمال على طول خط موانئ القناة في احتجاجات ضد إدارته في الشهرين الأخيرين؟».. «هل تعرف أن رئيس شركة بتروجاس هو لواء أركان حرب ياسر زكريا النكلاوي، وأن نائبه القادم من هو الحرس الجمهوري اللواء عاصم محمد، وأن رئيس شركة بتروتريد هو اللواء محمد مصطفى درويش، والقائمة تطول في قطاع البترول؟».. «هل تعرف أن رئيس شركة إيجوث للسياحة لواء جاء خلفاً للواء وتطول قائمة اللواءات أيضاً في قطاع السياحة؟». «هل تعرف أن رئيس هيئة الرقابة الإدارية الحالي والسابق وقبل السابق لواءات، وذلك في بلد تنضح برائحة الفساد، الذي يبدو أنه لا يراقب عليه بالفعل أحد؟». أخيرًا بالتأكيد تعرف أن الغالبية العظمى الكاسحة من مناصب المحافظ وسكرتير المحافظ في قبلي وبحري والعريش الحرة أو من بورسعيد كلهم لواءات وعقداء متقاعدين!
كل هؤلاء يتقاضون معاشاتهم من القوات المسلحة ومعها رواتبهم من وظائفهم العالية الجديدة. والأهم من ذلك أنهم يديرون تلك الأماكن بأساليب قديمة بآلية عفى عليها الزمن من غيابات القرن الماضي. يزيد ذلك من إحباط العاملين داخل تلك المؤسسات، ويدفعهم للعزوف عن العمل المجتهد المخلص.
أما عن الهيئة العربية للتصنيع، فهي لا شك صرح وطني عظيم، وثبت لنا أن بها الكثير مما يستحق التقدير، لكن بها أيضاً ما يقتضي المراجعة. فعلى الجانب الذي يدعو للفخر أن الهيئة تنصف عمالها. ذكر لي الأسطى يحيى بشير- كبير فنيين بمصنع حلوان للصناعات المتطورة- أن أقل أجر للعامل في عنبره للمواسير واختبارات الطيران ويتقاضاه العتال يصل إلى ١٠٠٠ جنيه بالحوافز، وهو يفوق الحد الأدنى للأجور، وأنه هو نفسه مريض سكر منذ سنوات، وتتكفل الهيئة تماماً بمصروفات علاجه. وأضاف الأسطى محمد علام بنفس العنبر أن «راتبه زاد ما يقرب من ٣٠٠ جنيه بعد الثورة». وفوق ذلك تمنحهم الهيئة نسبة عالية تصل لـ ١٥ % من الأرباح. وشاهدت في المصنع نفسه والهيئة كلها علامات الزهد والبعد عن الفخامة والبذخ، مما يدلل على أن إدارة الهيئة تتقاسم مكاسبها مع من يعملون بها ولا تنفقها على رفاهية الكبار فيها.
أما على الجانب الذي يقتضى منا المراجعة، «فلماذا دائماً يرأس الهيئة عسكري ولا يأتي الدور أبداً على المدنيين، في حين أن الغالبية العظمي من إنتاجها مدني؟». توالى على إدارة الهيئة فريق متقاعد تلو الآخر طوال العشرين سنة الماضية، «ألا يعد هذا احتكاراً؟» مادامت المسألة في النهاية مهارات إدارية وليست فنية، «فلماذا لا يكون رئيسها إداريًا متخصصًا مدنيًا وله نائب عسكري يقوم على شؤون الأقلية من إنتاجها الحربي؟»
لا يتعلق الأمر فقط برئيس مجلس الإدارة العليا للهيئة، لكن المناصب العليا من رؤساء مجلس إدارة ورؤساء قطاع ومديرين، أغلبهم عسكريين سابقين. وجدت في مصنع حلوان للصناعات المتطورة، عندما زرته، رئيس مجلس إدارة مدني، وهو المهندس مازن علام، لكن سبقه لمنصبه اثنان من العسكريين، الذين جلسوا في مقعده لمدة ١٦ عاماً قبل أن يصل هو أخيراً منذ عامين فقط.
ونظراً لعسكرة المكان الملتفة في كون الهيئة «جهة دولية»، لا تخضع الهيئة للقوانين الخاصة بالدولة المصرية، وتُخضع نفسها فقط للائحتها الداخلية، التي فصلتها لنفسها. ولذلك لا يُسمح للعمال في مصانع الهيئة بتشكيل نقابات أو اللجوء لمحاكم الدولة، إذا ما نشبت خصومة بينهم وبين إدارة الهيئة، بل ملاذهم الوحيد هو لجنة قضائية من وزارة العدل ومجلس الدولة. فوق كل ذلك «أن عسكرة المكان جعلته فوق الرقابة والمحاسبة»، ولا يطلع على ملفاته بمكاسبها أو خسائرها سوى رئيس الهيئة ومجلس إدارتها واللجنة العليا، التي يرأسها الآن المشير طنطاوي. سيادة الفريق أنت نزيه وعادل وكذلك أغلب أعضاء الإدارة العليا معك، لكن ما أدراك أنه لم يأتِ قبلك ولن يأتي بعدك فريق فاسد يبخس حقوق العمال وينشر الفساد في المؤسسة ويقضي عليها.
هناك صفحات عديدة على «فيس بوك» للهيئة، وحوالي ٤ منها غير رسمية، أنشأها عمال ليلقوا على حوائطها بجملهم الاحتجاجية، ويتشاركوا همومهم. تحدثت على حائط إحدى تلك الصفحات مع عامل غاضب، وكان ما قاله لي نصاً هو «إذا كنت تريدين أن تعرفي مشكلة الهيئة، فالمشكلة الأساسية في إدارتها ما هم إلا مجموعة من متقاعدين الجيش يأتون إلى الهيئة ليقبضوا معاشهم من الجيش ويقبضوا رواتب من الهيئة، ومشكلة اللوائح بالهيئة أنها تضع كل الأمر بيد الفريق كأنه أمر الله في الأرض».
سيادة الفريق، دعوتكم لنا كمواطنين لزيارتكم أثبتت صدق نواياكم تجاه هذا الوطن، لكن الأمر يتخطى حدود شخصكم الكريم والهيئة، لقضايا أخرى كبيرة وحرجة تخص البلد كلها.
القضية إنما هي مسألة عهد ولّى، لكنه لايزال يجثم على أنفاسنا ويصر على الاستمرار، عهد كان العسكر فيه هم البهوات ومن دونهم رعية تقع أسفلهم. مرت العقود وتغير العالم بأجمعه من حولنا وانقرضت النظم العسكرية وتحولت لذكرى سيئة لحقب متخلفة، عادوا أفراد تلك النظم لثكناتهم ليركزوا في مهمتهم الأساسية وهي الدفاع عن أوطانهم، وتركوا أماكنهم لآخرين مدنيين، تركوها لنخب مدنية تأتي بها وتقيلها مؤهلاتها وصناديق الانتخابات، ويُحكم عليها بمدى ما قدمته للشعوب، ولا تأتي على أسنة بنادقها ولا يستطيع أن يراقب عليها أو يزيحها عن أماكنها أحد.
وبناءً على كل ما تم ذكره سابقاً، لا أملك إلا أن أضم صوتي لصوت العمال والمهندسين والمحاسبين والفنيين والسباكين وبتوع التليفونات..إلخ في بر مصر كله، الذين يرفضون عسكرة الوظائف. أضم صوتي لمن يطالبون بتسليم قيادة البلد لجيل جديد من متخصصين ماهرين يجيدون فنون التصميم والتسويق والدعاية والإدارة والتخطيط في عالم سريع الإيقاع مفتوح الأسواق شديد المنافسة، وأخيراً علينا أن نخرج من غيابات منتصف القرن الماضي، الذي لا نزال عالقين فيه، إلى براح القرن الحالي ونلحق بمن سبقنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق