كثيرا ما يُحكى عن التعايش السلمي بين الأقباط والمسلمين في مصر، وبالرغم من ظهور بعض المشكلات بين الحين والآخر إلا أننا دائما ما نجد أمثلة على التعايش تجبرنا على التعجب منها والتوقف عندها احتراما وتقديرا.
"جميل عبد الكريم عبد الله ميخائيل" أو الشيخ جميل الدشلوطي أو الأسيوطي، ذلك الرجل الستيني المسيحي، لمع اسمه في معظم أنحاء مصر وذاع صيته في الفن الشعبي والإنشاد الديني بسبب حب مسلمي مصر له ولصوته، الذي يتغنى به مادحا الرسول الكريم.
اتخذ الأسيوطي من تلك الموهبة "سبوبة" كي يوفر لقمة عيش له ولأسرته بـ"دشلوط"، إحدى قرى مركز ديروط الواقع بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، حيث يعيش في الجبل بمنزلٍ بُني من الطوب والأسمنت وسقفه من الخشب والبوص.
الموهبة من الله
في حديثه لـ"هافينغتون بوست عربي" عاد جميل بذاكرته إلى الطفولة حين ظهر حبه للغناء عبر الأغاني الشعبية. وعندما أصبح في 17 من عمره، عمل سائقا لدى أحد صاحبي الجرارين الموجودين بالقرية، فكان يعمل منذ آذان المغرب وحتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي بمبلغ 45 جنيها، فكان يقضي وقته ليلاً أثناء حرثة للأرض في دندنة المواويل على ربابة صنعها من بوص الذرة.
وفي عام 1977 سمعته مجموعة من العازفين والمغنيين، الذين ما إن استمعوا إليه حتى دعوه إلى المشاركة في أحد الأفراح التي يقومون بإحيائها. لم يتردد الأسيوطي لحظة في الموافقة على عرضهم، فذهب معهم وعزف على آله المُوُصل "مزمار مصنوع من الغاب".
تلقى أول أجر له 2.5 جنيهات بالإضافة إلي 5 قروش بقشيش مازال محتفظاً بها إلى يومنا هذا، ومن هنا بدأ جميل، على حد قوله، اكتشاف الموهبة التي منحها له الله، فقرر امتهان الغناء والإنشاد الديني في الأفراح. ومن هنا بدأ مشواره الفني في محافظات مصر مادحاً الرسول.
الأمية في مواجهة الموهبة
"لا يمكنني القراءة أو الكتابة لذا لم أستطع أن أقرأ الإنجيل وأُرنمه أو أن أغني أناشيد الكنيسة"، بحزن روى لنا الأسيوطي عن إحدى الأسباب التي دفعتة نحو الإنشاد الديني والفن الشعبي، والتي منعته من المشاركة في غناء الأناشيد بالكنيسة وكسب قوت يومه منها، وهو ما كان يفضله.
وأضاف أن الإنشاد الديني أو الفن الشعبي في عموم الأمر يعتمد أولاً علي الموهبة، ثانياً الاجتهاد في تعلم متطلباته التي تتلخص في تأليف المواويل أو قصائد المدح الصوفية واختيار لحن مناسب لها، الأمر الذي لا يتطلب منه أن يكون متعلما، فهو يؤلف الموال ويحفظة ويلحنه ثم يجتمع بفرقته المكونة من 11 فردا لتوزيع اللحن على الآلات الموسيقية.
لذا فهو يرى من منظوره الخاص أنه استطاع أن يتعايش مع عجزه عن القراءة والكتابة بموهبته التي وفرت له لقمة العيش.
رحله المدح والإنشاد
يؤلف جميل مواويل في مدح الرسول الكريم منذ بداية مشواره الفني، ويؤكد أنه من الأوائل على الساحة في مدح النبي بعد مكرم المنياوي، القبطي أيضا. يقول جميل: "في الاحتفالات المختلفة وعندما أبدأ أغني وأمدح في النبي ألاقي الناس متهابه (يشعرون بالاستغراب) وساكتين بس شوية ويتعودوا ويطلبوا مني أقول المواويل في النبي. وفيه اللي يجي مخصوص عشان حد من عنده طالع الحج وعايزني أقوم بتأليف موال عن النبي بمقابل مادي فبقعد طول الليل أظبط وأؤلف موال مدح".
فيتوجب على الأسيوطي الذى أعتاد مشاهدة القنوات الدينية المسيحية، إسعاد جمهوره ذو الأغلبية المسلمة، ذاكراً أن في موسم الحج دائماً ما يكون لديه احتفالات يقيمها المسلمون بمناسبة ذهابهم أو رجوعهم منه، بالإضافة إلي طلب البعض في الأفراح لمواويل مدح للرسول صلى الله عليه و سلم.
وأشار إلى أن أكثر المواويل طلباً من الجمهور هي "مدحت النبي" و"وديني يا دليل وديني".
إسعاد الجمهور فن
يقول جميل إنه عند إحياء مناسبة خاصة بالمسلمين وإذا تواجد مجموعة من المسيحيين يقوم بغناء مواويل عن السيدة العذراء ونبي الله عيسى، والعكس إذا كان هناك فرح خاص بالمسيحيين وتواجد بعض المسلمين فهو يقوم بغناء موال مدح للرسول، ويبرر جميل طريقته تلك في إحياء الأفراح والمناسبات بمحاولة إسعاد محبيه والعمل على زيادة شعبيته.
ويذكر جميل أن من سبل إسعاده لجمهوره تأليف مواويل عن مختلف الموضوعات التي يطلبونها بمقابل مادي أو بدون، وتكون تلك المواويل عن الحب أو الصداقة أو الجيرة أو أي من الموضوعات الاجتماعية المختلفة.
المسلمون والمسيحيون
"يتقبل المسيحيون مدحي الرسول ويعلمون أن المدح والإنشاد جزء من الفن الشعبي الذي أقدمه وهي المهنة التي توفر لقمة العيش لي ولأفراد أسرتي، الذين يعملون معي في نفس المجال، لذا لم تحدث بيني وبينهم أي مشكلة في ذلك الإطار من قبل"، هكذا كانت إجابته عن مدى تقبل أبناء ديانته لمهنته، ويقول أن هناك العديد من المنشدين المسلمين الذين يمدحون السيدة العذراء والمسيح، لذا ليس هناك ضرر في مدح الرسول الكريم.
ويضيف "الجميع يحبني ويطلبني كي أحيي حفلاتهم ولكن نسبة المسلمين أكبر بالطبع فهم الأكثر حجزاً لمواعيدي وحبهم لي جعلني أتجول في مختلف أنحاء مصر وهم سبب شهرتي الحقيقية ونجاحي في الفن الشعبي بلا شك".
وعن المشكلات الطائفية التي تعرض لها يقول جميل أنها حصلت مرة واحدة مع شخص مسلم أراد تحويلها لمشكلة طائفية، ولكنه فشل بسبب حب الجميع له.
عائلة فنية
لجميل 7 أولاد، منهم 3 ذكور اتخذوا جميعا نفس الخط والاتجاه الفني، فالابن الأكبر لديه فرقته الخاصة التي يتجول بها أيضاً من أجل أحياء الحفلات بمختلف أنحاء الريف المصري، والأوسط يقوم بضبط السماعات وتحديد المواعيد وفي بعض الأحيان يعزف، أما الأصغر فهو عازف ربابة ويحلم بأن يكون أفضل عازف ربابة في مصر.
حلم جميل
منذ سنوات يراود جميل حلم غإياء حفل خارج مصر، طالباً من الله المساعدة في تحقيقه، ويقول: " إن لحظة وقوفي على مسرح بأحد الدول الأجنبية أو العربية تساوي عندي الكثير".
ندا على