ظل حلمها يراودها ويكبر معها بمرور السنين، حتى تمكنت "كابتن نهى إبراهيم" بعد إنهاء دراستها بكلية الهندسة قسم الميكانيكا باور، من الالتحاق بمعهد التدريب للطيران المدني الواقع بإمبابة آنذاك، تخرجت فيه في شهر ديسمبر عام 1995 حيث البداية.
هناك في مطار أسيوط أقيم أول تدريب جوي وأول مأمورية لها في حضور والداها الذي اصطحبها برفقته، بعد إنهاء تدريبها إلى حيث تمتد الجذور لزيارة الأعمام والأقارب، والذين استحضرت ذكراهم على متن أحد رحلاتها الجوية المتجهة إلى الكويت، بعدما أصبحت كابتن طيار في عام 2005، لتهدئ من روع ركاب الأقصر بعدما أبدوا امتعاضهم من أن قائد رحلتهم سيدة، لتخبرهم قائلة: "قائد الرحلة كابتن نهى عبد الرحمن، من كوم سعدة مركز البداري محافظة أسيوط".. كلمات كانت كفيلة بتبديل حال ركاب الجنوب وأخذتهم إلى مصافحتها عقب انتهاء رحلتهم بمطار الوصول.
داخل أحد أجنحة معرض الكتاب بالقاهرة، هناك في فترة السبعينات نما حلم طفلة صغيرة لا يتعدى عمرها أصابع الكف، مكثت لعدة أيام في إحدى الزوايا وهي ممسكة بكتاب عجزت آنذاك عن شرائه، جلست لتروي ظمأ التعطش إلى بحر الطيران، إنها الآن أصبحت أول سيدة مصرية تعمل مدربة على طائرة ركاب.
منذ أن كانت طفلة في الرابعة من عمرها، خُيل لها دائما أنها تمتلك أجنحة عباس بن فرناس تحلق بها إلى عنان السماء، أحبت مشاهد الصقور تحت السحاب، كانت ترقبهم عن كثب، متيقنة أنها في يوم سوف تزاحمهم الأجواء مطوية خلفها السحاب.
بهذه الواقعة ذكرت دعم أسرتها الكامل لها في حياتها العملية والاجتماعية، لتتذكر مساندة والدتها الدائم بلا كلل أو ملل، ودفع والدها لها بإصراره على إنهاء دراستها أولا قبل دراسة الطيران، رغم اعتراضه على الأمر في بدايته لصعوبة المهنة وطبيعتها المختلفة، وإبداء تخوفه من أن يفوتها قطار الزواج الذي يسير على الأرض وهي تحلق بالطائرة في السماء.
لتسرد تفاصيل واقعة معرض الكتاب، حيث كانت طفلة في المرحلة الابتدائية تنتظر كل عام بشغف لزيارة المعرض، وحينما أعجبها كتاب يحوي بداخله قدر لا بأس به من علوم الطيران، كان يباع بنحو مائة وثلاثة جنيهات حينها كان مبلغا باهظا على شراء كتاب في فترة السبعينات، ولكنها أخذت تساوم والدها بأنها مستعدة للتخلي عن التنزه وملابس العيد في مقابل شراء هذا الكتاب، ليرد عليها قائلا: "لما تكبري وتشتغلي وتكسبي فلوس من شغلك وعرق جبينك ابقي اشتري اللي انتي عاوزاه".. كانت كلمات قاسية على مسامع طفلة، ولكن بقدر قسوتها أثرت بها وخلقت منها إنسانا يؤمن بأن الحصول على الأشياء في الحياة ليس بالأمر اليسير وإنما بالجهد والعرق، وهو ما جعلها حينها تترجل يوميا لمدة 45 دقيقة لتصل إلى المعرض وتمكث هناك طوال اليوم لتقرأ عدة صفحات من الكتاب لتنهيه مع آخر أيامه، بعدما ألف أصحاب الجناح وجهها بأنها تتردد يوميا لقراءة الكتاب وتركه في نهاية اليوم عائده إلى المنزل.
لم يفتها قطار الزواج كما تخوف والدها، هي زوجة مهندس مدني منذ 22 عاما وأم لشاب وفتاة في العشرين من عمرهما، أحدهما يدرس الهندسة وآخر الاقتصاد.
عن تقدير زوجها لعملها قالت: "إذا كان وراء كل رجل عظيم امرأة، فخلف كل امرأة ناجحة أيضا رجل"، واستطردت قائلة: "أمي كانت بتدعيلي دايما ربنا يرزقك بالصالح الفالح وهو فعلا كده الحمد لله، حاسس أد إيه أنا بحب الطيران، وإني مش وخداه منظر ولا برستيج، كنت واضحة وصريحة معه منذ اللحظة الأولى، وأخبرته أن الطيران مش في دمي بس، أنا لو بطلت أطير لسبب غير طبي ممكن أموت، الطيران بالنسبالي زي الأكسجين، السمكة ما تقدرش تتنفس غير في المية، أنا لازم أبقى فوق في الهواء".
وتابعت: "عملي يختلف عن باقي المهن، في عز الظروف الصعبة بلبس اليونيفورم وأروح شغلي وأفصل تماما، الطيار لا يملك رفاهية الاعتذار عن العمل، من الصعب إيجاد بديل في الأوقات الضيقة، لازم تكوني مستعدة للتضحيات، أول يوم مقابلة ليا في العمل وأنا مساعد طيار، قولت إني هنظم حياتي على حسب ظروف شغلي وليس العكس".
لم تكن الظروف الأسرية وحدها الداعم لها في مسيرتها، أيضا كان المجتمع المصري، الذي احترمها بقوانينه الراسخة، أنصفها في فترة حملها بطفليها، ومنحها إجازة من الطيران لمدة عام في 1998 حتى أنجبت، استطاعت خلالها العودة بكامل طاقتها لمواصلة مسيرة حياتها العملية، فتقول: "في مصر المرأة حقوقها محفوظة وفق قانون العمل بعكس دول تانية تدعي التقدم.. إحنا بشر من الجميل أن يكون لديك حياة أسرية مستقرة تعطي دفعة لعملك، حتى لو كانت طبيعة العمل مرهقة، أقوم بكل واجباتي كزوجة وأم لأطفال".
وتابعت: "الوضع اختلف عن زمان كان لا يوجد ثقافة وجود الطيارات المصريات، كان الأجانب يتساءلون عن كوننا عربا ومسلمين، لكن لا يوجد الآن ما يعوق أي امرأة عن ممارسة مهام عملها، كل ما عليها هو تحديد الهدف والسعي إليه بكل الطرق وتنظيم الحياة والتخطيط بطريقة صحيحة، وجود الأسرة والأطفال لا يعيق العمل".
24 عاما لم تشبع بعد شغف امرأة عاشقة للطيران، ترى أن اللحظة الأجمل في حياتها، وهي تخترق السحاب الأبيض بطائرتها، لتتذكر جملة سياسي معروف، قالها لها بعد ترقيتها كابتن طيار على طراز إيرباص 320 عام 2005، عندما علم أن سيدة مصرية هي قائدة الرحلة، صافحها قائلا: "إحنا في إيد أمينة".
لم تتوقف كابتن "نهي إبراهيم" عند كابتن طيار، ظلت تعمل حتى أصبحت أول سيدة مصرية تعمل مدربة على طائرة ركاب، فتقول: "مدرب الطيران يبذل مجهودا مستمرا ودائما حتى يستطيع إيصال المعلومة، والطيران مثل أي مهنة يحتاج إلى التطوير الدائم والقراءة مثل الطبيب، لابد أن يبذل الشخص مجهودا بمرور السنوات ليتقدم"، وتابعت: "الطيران زي أي مهنة أخرى، الطيارة ليست سيارتك الخاصة، ولكنها ملك شركة بملايين الدولارات وعليها ركاب لا يمكن أن تقبل أي شركة بعملك إلا إذا كنتِ كفؤا، هنا ظروف العمل واحدة في كل شيء سواء على الرجل أو المرأة".
وقالت كابتن نهى إبراهيم: "إحنا في مصر في نعمة كبيرة ولكن الناس دايما بتنظر للسلبيات لا تنظر للإيجابيات، نمتلك الكثير، الحياة لا تعطي الإنسان شيئا بدون تعب في أي عمل وأي مهنة، نقدر نعيش سعداء بالإمكانيات التي نمتلكها، الفرص الآن أصبحت أفضل أمام الطيارين، زمان كان هناك شركة واحدة ولكن أصبح هناك شركات كثيرة وكل ما تقام شركة تخلق فرصة لعمل أكبر".
ورأت أن قطاع الطيران في مصر متطور وصاعد، بتعاونه المثمر أيضا مع السياحة، قائلة: "لابد أن ننظر للخلف حتى نستطيع التخطيط للمستقبل، الآن نحن أفضل من وضعنا قبل 10 سنوات بالنظر للدول المحيطة، كل واحد لازم يشتغل بضمير بما يرضي الله".
واختتمت: "التدريب رسالة وأمانة في نفس الوقت لابد أن تكوني مستعدة لبذل مجهود لإيصال المعلومة بشكل محترم من خلال التطور الدائم حتى أستطيع تقديم المعلومة، ودي أول خطوة لي في التدريب ستكون بداية لخطوة أعلى"، وتابعت: "وصولي لمستوى معين لا يغنيني عن الاطلاع والتطور".
كابتن طيار نهى إبراهيم، المدربة بشركة إير كايرو التابعة لمصر للطيران، ولدت في 12 ديسمبر 1965 بالقاهرة، التحقت بالعمل في ديسمبر عام 1995 على طراز إيرباص 600، ثم ترقت للعمل على طراز الإيرباص 340 في عام 2005، ثم مدرب سميوليتر عام 2016، حتى أصبحت في يناير 2019 مدربا على طائرة ركاب، وتعد هي أول سيدة مصرية من الجيل الجديد بعد كابتن دينا الصاوي وكابتن نيفين درويش، سبقهن جيل الرواد الأوائل كابتن لطفية النادي وكابتن عزيزة محرم.