نور الصباح يشق ظلمة الليل، الساعة تقترب من السادسة والنصف صباحاً، الشوارع هادئة، شبه خالية من المارة، باستثناء فلاح يتقدم ماشيته قاصداً أرضه، وآخر يتجه إلى الطريق الرئيسى للذهاب إلى عمله، وثالث يستعد للتحرك بسيارته النصف نقل.
بجوار فرن القرية، تقف سيدة عشرينية أمام منزلها، بجوارها طفلها، عيناه ناعستان، يرتدى زيه المدرسى، ويحمل حقيبته المملوءة بالكتب وبعض السندويشات، بينما تمسك السيدة بيد طفلها فى انتظار الميكروباص، الذى ينقله إلى معهد «نور الأزهر» بقرية بنى عدى، فهو الوسيلة الوحيدة داخل القرية للوصول إلى المعهد الذى يبعد عن قرية المندرة بمسافه 30 كليومتراً، بعد تدمير أتوبيس المعهد الذى حطمه القطار أثناء عبور المزلقان، وراح ضحيته أكثر من 60 تلميذاً ما بين مصابين وموتى، يظهر الميكروباص من بعيد، ويصل إلى حيث تقف السيدة وابنها، فيركب وتودعه أمه فى نشهد يتكرر أمام منزل 22 طالباً هم عدد التلاميذ الذين يذهبون إلى المعهد يومياً، منهم 4 طلاب من الـ 17 الناجين من أتوبيس الموت.
«الوطن» استقلت الميكروباص المتجه إلى
معهد نور الأزهر أو معهد بنى عدى كما يطلق عليه الأهالى، وتحاورت مع التلاميذ، ورصدت أحاديثهم.
أطفال فى عمر الزهور، يتزاحمون على المقاعد، أجسامهم الصغيرة، تمكنهم من الجلوس متلاصقين داخل الميكروباص، بسبب كثرة عددهم، كل منهم يحمل حقيبته على ظهر أثناء جلوسه، يقترب الميكروباص من عبور مزلقان قرية المندرة، حيث موقع الحادثة، وعيون الأطفال تترقب من بعيد، أبصارهم شاخصة، يديمون النظر على المزلقان، وكلما اقترب القطار من عبور المزلقان تلتفت أنظارهم التى لا يطرفونها لحظة، سواء كانت على يمين ويسار المزلقان، حسب جلستهم، يتأكدون من أن القطار ليس قادماً، ثم يعودوا إلى طبيعتهم بمجرد تجاوز الميكروباص لمزلقان بلدتهم.
دعاء جمال، طالبة بالصف الثانى الابتدائى، عمرها 8 سنوات، تتسم بالهدوء، جسدها نحيل، وصوتها يكاد يُسمع بصعوبة، ترتدى حجاباً يكاد يخفى معالم وجهها، تحفظ من القرآن الكريم حتى سورة نوح من الجزء الثانى فى كتاب الله، وتجلس فى المقعد الثلاثى خلف مقعد السائق مباشرة، وسط 5 من زملائها، كانت ضمن ركاب الأتوبيس المنكوب فى يوم الحادث، الذى لم تتذكر منه إلا القليل، وتقول: «كانت جنبى إيمان وآيات والاتنين ماتوا، بس هما فى الجنة علشان شهداء وربنا أخذهم عنده، لأنه بيحبهم»، مؤكدة أنها لم تشاهد شيئاً يوم الحادث ولم تشعر بأى صدام، ولم تشعر بإصاباتها فى ساقيها الاثنتين ورأسها، وذراعها اليسرى، إلا بعد نقلها إلى المستشفى الجامعى التى ظلت ترقد فيه لمدة 3 أسابيع، وتؤكد أنها خرجت من المستشفى وجلست أسبوعاً آخر فى البيت، ذهبت بعده إلى المعهد.
فى المقعد الأخير، كان يجلس فيه عبدالرحمن عامر، الطالب بالصف الثالث الابتدائى، عمره 9 أعوام، كُتب له عمر جديد، بعد نجاته من حادث أتوبيس الموت، هو نفس المقعد الذى كان يجلس فيه فى الأتوبيس يوم الحادث، كما يحكى، وكان بجواره «سناء» بنت عمه، التى ماتت فى الحادث، ويشير بيده الصغيرة قائلاً: «عاصم كان قاعد جنبى هو كمان»، ويذكر الموقف الأخير لابنة عمه سناء التى توفيت فى الحادث، ويحكى من تلقاء نفسه: «كان معها جنيه وأنا كان معايا جنيه، وسناء ضيعت الجنيه اللى كان معاها، وأنا اللى دورت عليه ولقيته لها، قلت لها أوعى يقع منك تانى، وحطيته فى جيبها».
ويروى عبدالرحمن كيف وقع الحادث، ويُحمل المسئولية لعامل المزلقان «واحنا على القضبان والقطر أخذنا وراح واقع، وبتاع القضبان هو السبب لأنه راح يجيب عيش»، ويعود عبدالرحمن من جديد إلى حديثه عن سناء، قائلاً: «أم سناء لا بتاكل ولابتشرب، وراحت الجبانة عند سناء، وقطعت شعرها وخربشت وجهها وبهدلت نفسها بالتراب»، وعن إصابته التى تعافى منها يتحدث قائلاً: «كسر فى ذراعه اليسرى وجرح فى فروة الرأس، وجدى هو اللى فك خيط الغرز من رأسى بعد الجرح ما خف»، وفى أول يوم له بعد عودة إلى المعهد بعد الحادثة، أهدته إدارة المعهد لعبة أطفال «أخذت عربية هدية فى أول يوم».
وتقول هدى إبراهيم، الطالبة بالصف الثالث الابتدائى بالمعهد، «مارحتش المعهد يوم الحادث، بسبب البرد، بس أنا زعلانة على أصحابى اللى ماتوا، وبابا قال لى إنهم فى الجنة وإحنا هنروح ليهم كلنا بعد يوم القيامة، بس أنا زعلانة عليهم علشان هم وهدومهم كانت كلها دم فى دم».
«عم رمضان» كما يناديه الأطفال، يستقبل بابتسامته الهادئة، المتبوعة بالاستجابة، طلب أحد أبناء القرية بالركوب معه للذهاب إلى قرية بنى عدى، لقضاء مصلحة، وعن الحادث يقول سائق الميكروباص إنه «قضاء وقدر»، وأنه توقف تماماً بعد الحادث عن توصيل الطلاب إلى المعهد لمدة أسبوع كامل، بسبب خوف الأهالى والأطفال، وبعدها بدأت المجموعة التى كان ينقلها قبل الحادثة تذهب معه كل يوم وبعد 3 أسابيع من الحادث، انضم إليهم 4 تلاميذ بعد شفائهم من الإصابات، هم: عصام زكريا وعبدالرحمن عامر ودعاء وأروى، لكن أروى لم تأت اليوم، تغيب أياماً كثيرة، موضحاً أنها ما زالت متأثرة بالحادث، خاصة أنها فقدت شقيقها الذى كان يذهب معها إلى المدرسة.
ويؤكد سائق الميكروباص، (40 عاماً)، أنه لا علاقة له بإدارة المعهد، على عكس الأتوبيس الذى تحطم فى الحادث، إنما الأهالى هم الذين اتفقوا معه على توصيل أبنائهم إلى المعهد يومياً.
عبد الوهاب عليوة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق