تجلس السيدة العجوز بملابسها الرثة، تفرغ أكياس القمامة، حتى يُجرح إصبعها من قطعة حادة، تتألم، وتنادى على ابنتها الصغيرة: «روحى يا بت جيبى حاجة للجرح من الدكتورة ريهام». تهرول الفتاة، وتصل الصيدلية فتجد الدكتورة وقد لبّت لها طلبها على الفور فهى معتادة عليه، فكثيراً ما يُصاب به العاملون فى فصل القمامة بمنطقة عزبة الزبالين.
ريهام سعيد «دكتورة بنت دكتور»، لكنها ليست غريبة على مهنة أهل المنطقة، فالجد جاء بوالدها من محافظة أسيوط بالصعيد للبحث عن عمل حتى استقر للسكن فى العزبة، والعمل فى جمع القمامة، لكنه أصر على أن يكون حال نجله «سعيد»، والد الدكتورة «ريهام»، أفضل منه: «كان عايز ابنه يطلع أحسن منه، وأبويا ساعتها كان جايب مجموع كبير فى الثانوية العامة وقدر يدخل الكلية»، وتقول إن جدها من أوائل الذين استقروا فى العزبة ولم يجد عملاً سوى جمع القمامة.
تقف الفتاة أمام صفوف من الأدوية فى الصيدلية التى تستقر فى وسط عزبة الزبالين، والتى قررت أن تعمل بها بعد تخرجها فى كلية الطب، وتقول إن الجد لم يكن وحده الذى امتهن جمع القمامة، لكن عمها استمر فى تلك المهنة بعد تقاعد جدها: «جدى اشتغل فيها شوية، بس حكم السن خلاه يبطل وعمى كمّل»، واستمرت المهنة والنظرة الدونية التى يتعامل بها المجتمع معها تطارده فى كلية الطب التى التحق بها بالتزامن مع دخول والده وشقيقه وسط «الزبالين».
ورغم أنها أيضاً ظلت تطاردها، لكن لم تؤثر مهنة الجد على «ريهام» كما أثرت على والدها: «ماعمليش أزمة أوى زى اللى والده شغال فى المهنة»، تروى قصة زملائها فى الكلية من أهل المنطقة والذين كانوا يتهربون باستمرار من الإفصاح عن مكان سكنهم أو مهنة آبائهم، وإذا اضطروا لذلك يتحدثون على مضض.
عائلة «ريهام» تجمع بين الصنفين، البعض ظل على مهنة الجد، والبعض الآخر وصل لبعض المناصب المرموقة فى المجتمع: «عندى عمتى مفتشة فى الضرايب، وبابا طبعاً دكتور صيدلى»، وتقول «ريهام» إن أهالى المنطقة لا يجبرون أولادهم على العمل فى جمع القمامة، بل إن كثيرين منهم أبعدوا أولادهم عنها من منطلق «بيقولوا دايماً عايز أطلع ابنى أحسن حاجة فى الدنيا».
تضج منطقة «عزبة الزبالين» بالصيدليات، لا يخلو شارع فيها من وجود صيدلية، و2 أحياناً، وتقدرها ريهام بأكثر من 70 صيدلة داخل العزبة، فأهل المنطقة يجدون فى كلية الصيدلة مفراً آمناً لأولادهم من مهنة الآباء، حسب روايتها، خاصة أن «الصيدلة» مهنة بعيدة عن الوظائف الحكومية، و«وصف غير لائق اجتماعياً» تلاحقهم إذا قرروا يوماً العمل داخل جهاز الدولة والوظائف الحكومية: «فيه ناس عندهم 5 أولاد وكلهم فى كلية صيدلة». «ابن الظابط هيبقى ظابط وابن الوزير هيبقى برضه وزير»، مقولة متداولة تقتنع بها «ريهام»، رغم انسلاخ كثير من أبناء منطقتها عن مهنة آبائهم فى جمع القمامة، وتبرر ذلك برفض دخول حماها النيابة رغم حصوله على مجموع كبير وقتما كان فى كلية الحقوق وينطبق عليه كل الشروط المطلوبة.
وتعترض «ريهام» على لفظة «زبال» وتقول إن من المفترض أن الزبال هو الفاعل، أى من يلقى بالزبالة وليس جامعها، لكنها لفظة لصقت بجامعى القمامة بدلاً من ملقيها: «كلنا زبالين، هما اللى بينضفوا لينا زبالتنا اللى بنرميها». تعلم «ريهام» أولادها أن مهنة جدها شرف على جبينها: «لو ماكانش اشتغل فى الزبالة لا كان بابا بقى دكتور ولا كنت أنا جيت من الأصل». تزرع بداخلهم الفخر بكل ما له علاقة بالعزبة ومهنة أهلها، ولا تمانع أن يعمل أولادها فى تلك المهنة: «لو حبوا يشتغلوا فيها أكيد مش همنعهم بس أكيد برضو نفسى يكونوا أحسن حد فى الدنيا»، ولكنها ترفض أن يمتهنوا القضاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق