لا يقتصر دور سوق القيسارية في أسيوط المصرية على تقديم الخدمات والمنتجات، بل يعتبر من أهم الآثار الإسلامية في المدينة التي شُيّدت في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان.
التجول في شوارع هذا السوق المزدحمة يعيدك قروناً إلى الوراء لتشتم في عبقه حقبةً من التاريخ تستمر جيلاً تلو الآخر عبر المحلات والدكاكين والبضائع.
عند دخولنا لشوارع القيسارية بحثت كاميرا “هافينغتون بوست عربي” عن أقدم المحلات والحرف، فدلنا البائعون وأصحاب الدكاكين على تاجر الزجاج عمّ سيد عبده الذي تتواجد عائلته في هذا السوق منذ 500 عاماً.
وعن أسباب الازدحام، قال عمّ سيد إن قاصدها يجد كل ما يرغب به بأسعار أقل من المحلات أو الأسواق الأخرى، إذ يأتي المقبلون على الزواج من القرى والمراكز المحيطة، وفي بعض الأحيان من محافظات مجاورة، إلى القيسارية لتجهيز منازلهم بدء من الأثاث الخشبي وحتى الخضروات والعطارة والأجهزة الكهربائية وأدوات المطبخ.
عمّ سيد قال إن “القيسارية تنقسم إلى 3 شوارع، الأول قيسارية المجاهدين وكان قديماً يشتهر بحرفة التنجيد والنحاس، والثاني قيسارية أسيوط للخياطين والأقمشة، والثالث قيسارية المجذوب أو الميدوب، التي تشتهر بصناعة سن العاج وقماش التُل المطرز بخيط الفضة بأيدي النساء، بالإضافة لصناعتهن السجاد والكليم الذي كان يصدر للسائحين منذ 400 إلى 500 عام”.
ومن أشهر الوكالات التجارية وكالة شلبي، التي كان يقصدها التجار السودانيون، ووكالة ثابت التي كانت تستخدم لتجارة الطواشية، أو تجارة “الرقيق الأفارقة"، الذين تم جلبهم وإخصائهم لخدمة المنازل فيما مضى.
وتتكون الوكالات من طابقين، الأول للبضائع والثاني للمبيدات، كما بها حمام من العصر التركي يدعي "حمام ثابت".
مهنٌ اندثرت.. وأخرى ولدت
كما سرد عبده قصة أجداده، الذين كانوا يعملون قديما كـ “صرامطية” (أي صانعي أحذية ومصلحيها)، توجهت هذه المهنة لأغنياء القوم أو كما قال "مهنة الأعيان"، إذ كانت تصدر الأحذية للخارج. لكن مع تغير الزمن اندثرت المهنة، فغير أجداده نشاطهم إلى القُمراتية (أي صانعي الزجاج) وهي المهنة التي تعلمها وأتقنها.
بدوره يقول سعد - أحد مالكي المقاهي -، إن المقهى متوارث أباً عن جد منذ 200 عاماً، يقصده الزبائن من مختلف أنحاء المحافظة بل والجمهورية في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى الزبائن المعتادين.
ويضيف أن قائمة المشروبات لم تختلف كثيراً عن الماضي في طريقة تحضيرها، ولكن أضيفت بعض أنواع القهوة كالكابتشينو والقهوة الفرنسية وغيرها وذلك من أجل إرضاء أذواق الزبائن، أما أفضل ما يقدم في المقهى فهو الشيشة أو كما يطلق عليها محلياً “البوري”.
مالك القهوة قال إن قائمة الأسعار لم تتغير منذ سنوات حرصاً على إرضاء الزبائن بصورة لا تسبب الخسارة للمقهى، كما حدث “هافينغتون بوست عربي” عن آداب وقوانين المقهى التي وضعها أجداده منذ القدم قائلاً إن الألعاب مثل الطاولة والدومينو والأغاني وشاشات عرض المباريات تبدأ بعد غروب الشمس لتقليل الإزعاج في النهار.
مهنة أخرى شارفت على الاختفاء يتقنها عم سيد سرحان أو "سيد المغربل" كما يطلقون عليه، حيث تتلخص مهنته بغربلة وتنقية المواد التي تباع في دكاكين العطارة، مثل اليانسون والكمون والكركدية وغيرها من المواد الغذائية الأخرى.
وأوضح عمّ سيد أنه يعمل بمهنة الغربلة بالإضافة إلى متجر العطارة الذي توارثه عن أبيه منذ أكثر من 40 عاماً. وعند سؤاله عن الاختلاف بين الزبون القديم للقيسارية وزبون العصر الراهن، أجاب سرحان بأنه كان يقوم بتهيئة المواد وبيعها خضراء طازجة في الماضي، أما اليوم فيغربلها بهدف تنقيتها. ولفت إلى انخفاض عدد الزبائن وارتفاع أسعار المواد.
تراجعٌ في الإقبال على محال القيسارية
أما عمّ حمادة فاروق، فيملك بدوره دكان “النحاس للعطارة” والموجود منذ 120 عاماً في القيسارية الأولى أو “قيسارية المجاهدين”. اشتكى فاروق من قله توافد الزبائن وأرجع ذلك إلى أرتفاع الأسعار، مشيراً إلى اختلاف نوعية السلع التي كان يطلبها الزبائن، حيث يركز الآن على الحلوى مثل الملبسات والبسكويت بالشيكولاتة بعد أن كانت سلعاً مرفهةً في الماضي.
وأكد أن الرقابة الشديدة من هيئات التموين والصحة والبيئة هي أكبر المشاكل التي يمكن أن تقابلهم، كما قال إن غالبية من يعملون بالقيسارية موجودون بها منذ القدم ويتوارثون التجارة والحرف جيلاً بعد جيل.
تاريخ سوق القيسارية
بدوره قال علي محفوظ، أحد المختصين بوزارة الآثار في محافظة أسيوط إن القيسارية كلمة لاتينية الأصل تعني السوق التجاري في النظام الإسلامي. ويعتبر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان أول من أدخل هذا النظام للمدن الإسلامية، وتمثلت وظيفة هذا النظام في ضبط أسعار السوق واكتشاف حالات الغش وحفظ أموال الدولة للضرائب.
وعن التخطيط المعماري للقياسر أوضح محفوظ أنها صممت كشوارع طولية من أجل المارة فقط، وتتكون من الشارع الذي يحتوي على الدكاكين والوكالات التجارية والمقاهي والطواحين وأصحاب الحرف ومساكن الصناع.
وهناك صلة وثيقة بين القياسر والوكالات التجارية رغم اختلاف وظيفتيهما، حيث أن القياسر كانت تبيع نوعاً واحداً من السلع، أما الوكالة فتبيع جميع أنواع السلع عن طريق عرض السلع أو بنظام المقايضة. وأشار إلى اختلاف أسيوط عن مثيلاتها من بقية المحافظات، حيث تضم 4 قياسر؛ هم قيسرية الميدوب والمجاهدين وأسيوط ومحمد بك الدفتردار.
اندثرت قيسارية محمد بك الدفتردار، لتبقى القياسر الأخرى، علماً بأن غالبيها ترجع للعصر العثماني وجزء منها للعصر المملوكي. ازدهرت مدينة أسيوط تجارياً في العصر العثماني نظراً لسهولة التنقل منها وإليها عن طريق نهر النيل ولوقوعها على درب الأربعين، ما أدى لوصول تجارة أسيوط إلى بلاد اليمن والحجاز والسودان.
كما اشتهرت بالتوابل والكتان والصبغة وقصب السكر والأفيون، حيث كان تجار اليمن وبلاد الحجاز يتجهون لأسيوط ومنها إلى غرب أفريقيا.
وفي الوقت الحالي، يقصد القيسارية يومياً ما يقارب 10 آلاف زائر بسبب توافر جميع أنواع السلع والحرف. وأضاف محفوظ أن غالبية الآثار الإسلامية بمحافظة أسيوط موجودة بتلك القياسر التي سُجل ورُمم بعضها من قبل وزارة الآثار، أما ما تبقى فجاري توظيفه بعد ترميمه ليؤدي نفس الغرض والنشاط السابق الذي أنشئ من أجله، أو يتم استحداث وظائف له تتماشى مع العصر الراهن كإقامة الحفلات والمناسبات والعروض الثقافية وذلك بهدف رفع الوعي بالآثار لدى المواطنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق