عنهم :
أبو شعيب مصطفى بن محمد الغزالي المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة
رد شبهة الحروف المقطعة أوائل السور
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه شبهـة كثيراً ما أثارها بعض المستشرقين، وجرى على ترديدها وبثها بعضُ تابعيهم بضلال من المستغربين، ويا لها من شبهة داحضة فجة..
وهي أن الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن العظيم ليس لها معنى.
والجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: أن علماء المسلمين قد اجتهدوا في تفسير هذه الأحرف،
والمعلوم أن كثيراً من تفسير القرآن -كما هو الحال مع تفسير الكتب السابقة- فيه مجال لاجتهاد الراسخين في العلم،
والعجيب أن يعيبوا الاجتهادَ في هذا الموطن، ولا يعيبوا اجتهاد مفسريهم في تأويل كثير من نصوص كتبهم !!
الثاني: عامة علماء المسلمين من أئمة التفسير نصوا على أن لهذه الأحرف مدلولاً ومعنى.. حتى مَن قال منهم بأنها من أسرار القرآن -كما أن لكل كتاب سماوي أسراراً- لم يدَّعِ أنها لا معنى لها، ولا يمكن أن يكون في القرآن كلام لا معنى له..
الثالث: إن المشركين من العرب الفصحاء سمعوا بعض هذه الحروف فلم ينكروها مع حرصهم على تنفير الناس عن الإسلام لأدنى زلة تٌتَوَهَّـم، وشغفهم بالطعن فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام السيوطي في "الإتقان": "والذي أقوله: إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- بل تلا عليهم {حم} فُصِّلَت، و {ص} وغيرهما فلم ينكروا ذلك بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تَشَوُّفِهم إلى عثرة وغيرها وحرصهم على زلة؛ فدل على أنه كان أمراً معروفاً بينهم لا إنكار فيه".
الرابع: أن العرب قد وقع في كلامهم -نثراً ونظماً- الرمز إلى المعاني بالحروف ومنه:
قـلتُ لها قِفِي فقالت قــاف***لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
فقوله (قاف) أي وقفت.
ومنه أيضاً:
قولهم: (مهيـم) أي: ما هذا يا امرؤ؟!
وقولهم: (أيش) أي: أي شيء؟!
فكيف تدَّعون أن هذا الاستعمال غير معهود ولا مقبول عند العربي؟!
(انظر: بدائع الفوائد للعلامة ابن القيم، والتحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور)
الثالث: أن الله تعالى افتتح بهذه الحروف بعض السور للدلالة على عَظَمَة القرآن، وأنه معجز لا يقدرون على معارضته مع أنه مركب من جنس هذه الحروف المقطعة التي يتحدثون بها، ففيها من التحدي لهم ما فيها.
حكاه الإمام الرازي في تفسيره عن المبرِّد وجمع من المحققين، وحكاه الإمام القرطبي عن الفرَّاء وقُطرب، ونصره الزمخشري في الكشاف، وحكاه الحافظ ابن كثير في تفسيره عن شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ المِـزِّي. وقال عنه الثعلبي في "الكشف والبيان": "أحسن الأقاويل وأمتَنُها"، واختاره جمع من المتأخرين.
ومما يقوي هذا الفهم: استقراء ما يأتي بعد هذه الحروف من ذِكر للقرآن ..قال ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية: " وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف بذكر القرآن كما في قوله تعالى: { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه } (البقرة:1-2)، { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزَّل عليك الكتاب بالحق } (آل عمران:1-2)، {المـص * كتابٌ أُنزِل إليـك } (الأعراف:1-2)، { الـر تلك ءايات الكتاب الحكيم *} (يونس:1)".
قال الزمخشري: "
ولم ترِد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كُرِّرَت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن".
ومع ذلك أيضاً فإن فيها تنبيهاً للسامع ولفتاً لانتباهه.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق