إن دراسة شخصية الرئيس جمال عبد الناصر من ناحية صورته الجماهيرية هى بالقطع تجسيدا منفردا لنظريات ذلك العلم الحديث الذى يجمع بين علم الاتصال بالجماهير وعلم النفس الاجتماعى والعلوم السياسية ، تلك الصورة التى متع بها الله هذا الزعيم على مقومات خاصة جعلت منه ببريقه الشخصى يقنع الجماهير وبمعنى أدق رجل الشارع – لا أقصد على وجه التدقيق كلمة رجل بل اقول الشارع كله رجالا ونساءا وشبابا وشيبا اطفال وكهول --- بشكل طاغ لم يسبقه زعيم آخر فى هذه المقومات على الأقل فى التاريخ الحديث ، مما شكل انحيازا لهذا الزعيم فى أى اختيار حر واجهته سواء فى حياته او بعد رحيله عن عالمنا مما دفع البعض لاستعارة عبارة " عبادة الفرد " فى وصف علاقة الناس بجمال عبد الناصر . وللعلم فإن عبارة "عبادة الفرد " هى عبارة اطلقتها دوروثى طومبسون المعلقة السياسية الأمريكية المعروفة سنة 1956 للتعبير عن تعاظم دور شخصية المرشح الرئاسى لدى الناخبين .
إن خلق الصورة الإيجابية لرجل السياسة تتعدى التفاصيل الشكلية من تعبيرات الوجه او الملابس التى يرتديها السياسى او الرئيس وحركات يديه أثناء الحديث إلى ما هو أعمق من ذلك ، وإن كان من الواجب طبعا عدم تجاهل أهمية المظهر الخارجى للشخصية السياسية او الزعيم ، أى ان المهم ليس فقط شخصية الزعيم كما يذهب البعض ، وإنما أيضا محتوى تلك الشخصية .
الرئيس جواهر لال نهرو وصف الرئيس جمال عبد اناصر بقوله :
" إن ما أحبه فى ناصر انه يتعلم دائما . . أنه يتميز بصدق مطلق ونهمه متصل للمعرفة ، وشجاعته حاضرة ، وهذا ما جعله رجل الفكر والعقل والفعل المؤهل لقيادة امة فى حقبة حاسمة . . "
ويقول الكاتب الهندى " ديوان برندرانات " فى كتاب " ناصر الرجل والمعجزة" ، "ان التاريخ المعاصر للعالم العربى وخاصة مصر وتاريخ حياة ناصر لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر فدراسة الواحدة لا تكتمل إلا إذا أبقينا الأخرى نصب أعيننا ."
ويقول الكاتب البريطانى " توم ليتل " : إن قوة منطق ناصر مستمدة من قوة منطق التاريخ . .
إن ارتباط عبد الناصر بتراب هذا الوطن وتاريخه هو الذى صاغ صورته الجماهيرية أما إلتزامه بقضايا الوطن ومسارعته بالدفاع عنها فقد كان وسيلته فى توصيل هذه الصورةإلى شعب الأمة العربية فىكل مكان .
الدكتور " انيس صايغ " يقول فى كتابه :
فى مفهوم الزعامة السياسية من فيصل الأول إلى جمال عبد الناصر . . .
" استطاع عبد الناصر ان يمثل أغلبية الشعب تمثيلا صادقا ، وأن يدافع عن الأمانى القومية دفاعا حقيقيا ، واستطاع بواسطة ذلك ان يتحول إلى رمز للحركة الوطنية المعاصرة فتبايعه عبر هذه الحركة أغلبية الشعوب بزعامة لم يحصل عليها من قبل أى زعيم آخر لا من حيث اتساع أفقها وشمولها من المحيط إلى الخليج ولا من حيث نوعيتها .
إن زعامة عبد الناصر تختلف من حيث المادة التى تتركب منها ، إنها تنبثق عن الشعب ، عن مجموع طبقاته وفئاته وأفكاره . وهى تنبثق عن أمانى الشعب ، عن مطالبه التى نادى بها منذ قرن على الأقل ، وعن شعاراته التى رفعها منذ أن عرف العمل السياسى الحديث ، وعن أحلامه التى أخذت تتراءى له منذ أن أقلقت باله كوابيس التخلف والاستعمار والتفرقة والفاقه ، وعن تراثه وكيانه القومى ومصالحه العامة ، إنها باختصار ، تمثل أغلبية العرب . "
اما الكاتب الفرنسى " جان لاكوتير " والذى كان على صلة وثيقة ومعرفة كاملة بشخص الرئيس جمال عبد الناصر منذ ان كان مراسلا لجريدة الموند الفرنسية فى القاهرة فقد كتب اكثر من كتاب عن عبد الناصر ولكنى اريد ان اضع خطوط تحت ما سطره فى كتابه " ناصر " وهو يصف احداث تشييع جنازة جمال عبد الناصر فيقول :" إن هذه الجموع الغفيرة فى تدافعها الهائل نحو الجثمان إلى مثواه الأخير لم تكن تشارك فى تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير ، لكنها كانت فى الحقيقة تسعى فى تدفقها المتلاطم للاتصال بجمال عبد الناصر الذى كانت صورته هى التجسيد المطلق لكينونتها ذاتها .
لقد قفلت الآن الدائرة ولكن ماذا تحوى فى داخلها ؟
انقلاب 23 يوليو . باندونج . السويس . السد العالى . دمشق .الجزائر .قوانين 1961
إن كل ذلك قد أصبح الآن تاريخا ، لقد مضت فترة الانتقال من عهد الملك الدمية إلى الجمهورية والعروبة والاشتراكية ، لكن ما هو باق هو صورة عبد الناصر وما أصبحت ترمز إليه من الإحساس بالكرامة وروح التحديث والشعور بالأهمية الدولية . "
لقد كان لجمال عبد الناصر صورة جماهيرية طبيعية وغير مصطنعة ، نفذت إلىقلوب الجماهير العربية ووجدانها فى أقطار لم يكن لعبد الناصر سلطان عليها ، بل لقد كانت بعض حكوماتها تسعى للقضاء عليه وعلى صورته فى وجدان الشارع والناس
إن الصورة الطبيعية والجماهيرية للرجل لم تكن نتيجة جهود خبراء ولا كانت حصيلة دراسات او ابحاث ، إنما كانت نابعة من ارتباطه بتراب هذا الوطن الذى جسده فى شخصه حتى أصبح هو ذاته مادة مثالية لدراسة حالة نادرة من تحليق صورة الزعيم السياسى فى آفاق لم يسبق أنوصل إليه أحد حتى الآن .
ولقد رويت فى شهادتى سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر الكتاب الأول قصة كان احد اطرافها التلميذ جمال عبد الناصر والطرف الآخر والده عندما وجده يحفر الأرض امام المنزل فى الخطاطبة فنهاه الوالد وانصرف ولكنه عندما عاد من عمله وجده ما زال يحفر ولما سأله عن السبب كان رد جمال : عايز اعرف ايه اللى جوة الأرض اللى بيقولوا لنا انها اصل كل شىء . .
إن ارتباط جمال عبد الناصر بالأرض وتراب الوطن هو احد اسباب صياغة صورته الجماهيرية .
فى يوم 26اكتوبر1954 ، وفى ميدان المنشية بمدينةة الاسكندرية ، وبعد ان انطلقت ثمانى رصاصات فى سماء الميدان نحو صدر جمال عبد الناصر ، ظل الرجل واقفا صامدا متحديا الاغتيال ومتحديا القاتل ، ووسط دوى الطلقات استمر جمال عبد الناصر قائلا للجماهير المحتشدة فى الميدان : " فليبق كل فى مكانه . . فليبق كل فى مكانه . . إننى حى لم أمت ، ولو مت فإن كل واحد منكم هو جمال عبد الناصر . . ولن تسقط الراية . "
كان هذا الموقف التلقائى الذى بادر به جمال عبد الناصر إنما يعبر عن صورة جماهيرية ناجحة بكل المقاييس تعبر عن موقف الرجل والجماهير فى نفس الوقت ، وهى هنا تستند على أساس من القناعة الراسخة بعظمة الجماهير التى يسعى لقيادتها وأمله فى إمكانية تحقيق مستقبل مبشر ومشرق لهذا الشعب . فالذى يؤمن بقاعدته تؤمن القاعدة به . وبدون هذا الإيمان المتين بالقاعدة الجماهيرية التى سيتفاعل معها الزعيم لا يستطيع أى عدد من الخبراء ، مهما كبر وعظمت قدراته ، أن يخلق صورة إيجابية لرجل السياسة لدى الجماهير أو فى الشارع بشكل عام ، وإن استطاع هؤلاء الخبراء ذلك لفترة محدودة فسرعان ما سيكتشف رجل الشارع العادى بفطرته زيف هذه الصورة وحقيقة ازدراء الزعيم له ، أو عدم إيمانه بقدراته الخلاقة وبالتالى إنعدام أمله فى تحقيق المستقبل الواعد والمبشر و المشرق .
ويرتبط بهذا شرط آخر لا يمكن فصله عنه ، وهو أن يكون لدى الزعيم تصور لدوره فى قيادة الشعب إلى المستقبل الواعد والمشرق لأن هذا سينعكس فى النهاية على صورته الجماهيرية بحيث توحى للجماهير بأن هذا الرجل بعينه هو الذى يستطيع أن يوصلها إلى الغد المشرق الواعد الذى ينتظرها .
هذا الشرطان المسبقان لخلق صورة جماهيرية ناجحة هما فى الحقيقة الأمر معيار رئيسى لاختبار ما إذا كان رجل السياسة يملك فى الأصل مقومات الزعامة أم لا .
فكم من قائد أو رئيس ولد وعاش ومات دون أن نسمع به أو نرى له اثر جماهيرى ذلك لأنه لم يتمكن من أن يقوم بدوره لآفتقاره إلى تلك الصورة الجماهيرية
وفى هذا المجال يقول الدكتور أنيس صايغ :
" إن أعمال الزعيم هى رأس المال الذى يستعمله فى مضاربات السياسة ، لكن حساب الزعامة ليس مجرد قائمة بالواردات والصادرات والأرباح والخسائر . والجماهير صاحبة القرار الأخير فى مصير الزعامة ليست دماغا إلكترونيا يحكم على الأعمال حكما تلقائيا لا عاطفة فيه ولا يخضع لمؤثرات شخصية . لا تقوم الزعامة على الأعمال فحسب . . مطلوب من الزعيم فى سائر الزعامات وسائر الشعوب ــ حتى الذى بلغ أرقى درجات الرقى ــ أن تتوافر فيه صفات خاصة تؤثر عادة فى الجماهير إلى جانب الخدمات التى يرى الشعب فى قيام الزعيم بها تحقيقا لذاته ومصالحه . "
وإذا نظرنا الآن إلى جمال عبد الناصر فى ضوء هذه القاعدة التى تنطلق منها أى صورة جماهيرية ناجحة لزعيم سياسى فسنجد أن إيمانه بعظمة هذا الشعب وقدراته الكامنة ، وأمله المؤكد الراسخ فى إمكانية تحقيق مستقبل واعد ومشرق لهذا الشعب تمثل خطا ممتدا خلال كل خطاباته واقواله وما جاء على لسانه فى جميع اجتماعاته ولقاءاته العامة والرسمية سواء مع الرؤساء والقادة الذين زاروه او مع المؤسسات الرسمية والشعبية وذلك على امتداد ظهوره على مسرح الأحداث وحتى رحيله عن عالمنا .
وللتدليل على هذا فلقد كتب جمال عبد الناصر فى كتابه فلسفة الثورة :
" إننا نعيش فى مجتمع لم يتبلور بعد ، وما زال يفور ويتحرك ، ولم يهدأ حتى الآن أو يتخذ وضعه المستقر ويواصل تطوره التدريجى بعد مع باقى الشعوب التى سبقتنا على الطريق . "
" وانا أعتقد دون أن أكون فى ذلك متملقا لعواطف الناس ، أن شعبنا صنع معجزة ، ولقد كان يمكن أن يضيع أى مجتمع تعرض لهذه الظروف التى تعرض لها مجتمعنا ، وكان يمكن أن تجرفه هذه التيارات التى تدفقت علينا ولكننا صمجنا للزلزال العنيف . "
" صحيح أننا كدنا نفقد توازننا فى بعض الظروف ، ولكننا بصفة عامة لم نقع على الأرض .
" أنظر إلى هذا وأحس فى أعماقى بفهم للحيرة التى نقاسيها وللتخبط الذى يفترسنا ثم اقول لنفسى ، سوف يتبلور هذا المجتمع ، وسوف يتماسك ، وسوف يكون وحدة قوية متجانسة ، إنما ينبغى أن نشد أعصابنا ونتحمل فترة الانتقال . "
وهذا يؤكد أن شعور بل وإيمان جمال عبد الناصر بعظمة الشعب المصرى لم يكن شعورا رومانسيا وإنما هو شعور واقعى وحقيقى يدرك مواطن القوة كما يعى أيضا مواطن الضعف التى ينبغى التغلب عليها ، ومن ثم فإن أمله فى المستقبل الواعد والمشرق قناعة راسخة قائمة على فهم واع وعميق للحقيقة والواقع .
وللمزيد حول هذه النقطة أيضا اقول أن الرئيس جمال عبد الناصر عاد ليقول فى سنة 1963 خطابا جاء فيه :
" ده كان المجتمع القديم اللى احنا اتوجدنا فيه . . قامت ثورات كثيرة . . قامت ثورة فى زمن الخديوى توفيق ، لما قام عرابى وقال :
لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا ونحن لم نورث ولن نورث أبدا لأى فرد ولو كان الخديوى توفيق . . خدوه الانجليز ، وجم نفوه ، ولكن هل قدروا بعد أن نفوا عرابى وزملاء عرابى إنهم يقضوا على الحرية فى هذا البلد ؟ ! أبدا . . بدليل إن إحنا النهاردة أحرار والبلد بتاعتنا . . وإن إحنا نبنى هذه البلد كما نشاء . . بمكن السنين طالت أو الزمن طال ، ولكن البلد بتاعتنا . "
إن الأمل فى تحقيق المستقبل الأفضل للشعب وللبلاد بالتالى فهو مرتبط تماما بإيمان الزعيم نفسه بعظمة الشعب وهو العنصر الذى ينعكس على الجماهير نفسها ويجعلها تحرص على التمسك بالزعيم لأنه هو الذى ايقظ ونمى هذا الشعور بقدراتها الكامنة وشبعها بالأمل فى مستقبل واعد ومشرق ، وجمال عبد الناصر أعطى الشعب ما لم يكن يملكه هذا الشعب من قبل وهو الأمل .
وإذا رجعنا لماض ليس ببعيد سوف نرى أن شعور جمال عبد الناصر بدوره فى النهوض بالشعب المصرى وتحقيق مستقبل أفضل له منذ شبابه المبكر من خلال قراءته لسير الأبطال والزعماء الوطنيين التى رسمت له صورة البطل انه هو المحارب الفاتح الذى يحرر وطنه . لقد قرأ جمال عبد الناصر فى سبابه كتب " حماة الإسلام " لمصطفى كامل ، و" طبائع الاستبداد " لعبد الرحمن الكواكبى ، و " ووطنيتى " للشيخ على الغاياتى ، كما قرأ كتب أحمد أمين عن الدراسات فى حركات التجديد فى الاسلام عن جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده ونجيب محفوظ ، وقرأ سيرة غاندى وفولتير وجان جاك روسو والبؤساء لفيكتور هوجو وقصة مدينتين لتشارلز ديكينز ويوليوس قيصر لشيكسبير وقد قام بتمثيل دوره فى الحفل السنوى لمدرسة الأقباط يوم19يناير1935 ، وغيرهم ممن سبق أن أوردت اسماؤهم فى الجزء الأول من شهادتى .
ولقد كان لقصة توفيق الحكيم " عودة الروح " أثرا عميقا فى شخصية جمال عبد الناصر وجعلته يحس بأهمية دور الزعيم ، كما لفت نظره الحوارات التى دارت بين عالم الآثار الفرنسى ومهندس الرى الانجليزى حول الشعب المصرى وافتقاره إلى قائد مصرى مخلص يخرجه من الظلمات إلى النور .
وهذا دفع جمال عبد الناصر يكتب لصديقه حسن النشار رسالة خاصة جاء فيها :
" . . . لقد انتقلنا من نور الأمل إلى ظلمة اليأس ونفضنا بشائر الحياة ، واستقبلنا غبار الموت . . فأين من يقلب كل ذلك رأسا على عقب ويعيد مصر إلى سيرتها الأولى يوم كانت مالكة للعالم ؟ أين من يخلق مصر خلقا جديدا حتى يصبح المصرى الخافض الصوت الضعيف الأمل الذى يطرق برأسه ساكنا صابرا على حقه المهضوم ، يقظا عالى الصوت ، عظيم الرجاء ، مرفوع الرجاء ، مرفوع الرأس ، يجاهد بشجاعة وجرأة فى طلب الحرية والاستقلال . "
من المسلم به أنه يجب أن تكون الصورة الجماهيرية الناجحة للزعيم أن تكون الصفات التى تمثلها تلك الصورة موجودة فعلا لدى صاحبها وليست مقحمة على شخصيته ، فمن غير العقول أن يكون الرجل أو المقربون منه فاسدين ونحاول تصويره كطاهر اليد ، أو أن يكون ألوب حياته يتسم بالأبهة ونصوره على أنه يحيا حياة بسيطة مثله كمثل أى مواطن عادى ، ذلك أن رجل الشارع لديه الفراسة الفطرية دائما والتى تمكنه من يكتشف ما هو حقيقى مما هو مزيف .
وهنا نجد أن الجماهير المصرية والعربية كانت على قدر كبير من الوعى ليس فقط من الحكم على صحة صورة جماهيرية تمتع بها جمال عبد الناصر أثناء حياته وإنما مكنها أيضا من التصدى لمحاولات العبث بهذه الصورة بعد مماته ، وفى هذا المجال يكفى أن نسوق مثالا واحدا هو المحاولات التى تكررت للنيل من طهارة يد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وسلامة ذمته المالية التى بدأت بعد وفاته وعلى وجه التحديد فى زمن الردة والانفتاح السداح مداح ــ على رأى الصديق أحمد بهاء الدين ــ بما تردد وكتب حول وجود حسابات باسمه فى بعض البنوك السويسرية ، ثم وصلت إلى ذروتها حين وجه له اتهام محدد باختلاس 15 مليون جنيه ووضعها فى حسابه الخاص وذلك فى كتاب جلال الدين الحمامصى " حوار وراء الأسوار " وبهذه المناسبة فقد كنت عند صدور هذا الكتاب وراء أسوار السجون وتم استدعائى للتحقيق معى بواسطة المدعى العام الاشتراكى وقد قمت بتفنيد والرد على كل هذه الافتراءات ودحضتها واصريت ان يكون التحقيق مكتوبا لأوقع على أقوالى وقد تم ذلك فعلا حيث رفضت ان يكون التحقيق فى شكل مناقشة شفوية وأذكر أنى قلت للمدعى أننا لسنا فى مقهى ندردش بل نحن امام اتهام خطير لأنظف رجل حكم مصر وما لم يتم فتح محضر تحقيق مكتوب فسوف لن اجيبك على أى سؤال .
وعندما أصدر عثمان أحمد عثمان كتابه " تجربتى " الذى ادعى فيه أن منازل السيدتين هدى ومنى جمال عبد الناصر لم تدفع تكلفتهما الكاملة لأنهما بنيا لآبنتى رئيس الجمهورية السابق .
وسارع الرئيس السادات بالتنصل مما جاء فى كتاب صهره ورفيق مجلسه الدائم اتقاء لرد الفعل الشعبى الذى كان قد بدأ يفصح عن نفسه فى ذلك الوقت . وتلك دلالة على صعوبة العبث بالصورة الجماهيرية للزعيم القائمة على أساس من الصدق حتى بعد مرور سنوات على رحيله ليس عن المسرح السياسى بل عن العالم أيضا .
نصل بعد ذلك إلى مرحلة لا تقل أهمية عما سبق أن كتبت ألا وهى حدوتة المثل الأعلى الذى تجسده الصفات الشخصية و التى تظهرها الصورة الجماهيرية وما يترتب على ذلك من قوة الجذب تجاه الزعيم من الجماهير العريضة .
ومن بين هذه الصفات على سبيل المثال لا الحصر الآستقامة وطهارة اليد وعفة اللسان والخلق الحميد الطيب وقوة الشخصية وسعة الصدر والحزم والعفو . . وهنا يمكن إضافة خصائص اخرى لها أهمية فى مجتمعنا العربى مثل الطلاقة فى الحديث والخطابة والمظهر الصحى وخفة الدم والتحدث بلغة يفهمها الشارع وتستهوى الجماهير .
ونجد الكاتب الأمريكى روبرت سان جون فى كتابه " الريس "ٍTHE BOSS " وهو يصف صورة عبد الناصر كتجسيد لهاتين النقطتين ــ الطلاقة فى الحديث والصحة الجيدة ــ حيث يقول :
" . . وأفضل خطب ناصر التى يلقيها ارتجالا . . حيث يتكدس مئات الآلاف من الرجال والنساء فى ميدان شعبى ويقفون ساعات ثلاثا تحت الشمس الحارقة يستمعون إليه . والحقيقة هى أنه لأنه مصرى أى واحد منهم يستطيع أن يربط كثيرا من الكلمات بعضها مع البعض والناس ينظرون أكثر مما يستمعون وهو المرآه التى يرون فيها انعكاس أنفسهم فى الوضع الذى يتمنونه لأنفسهم ، وكثير منهم تئن أجسامهم من التعب ، أما هو فمرفوع القامة ، قوى البنيان ، عيناه لا معتان وسليمتان ، وجيه وحسن الملبس مثل معظم هؤلاء الأجانب الذين يهبطون من الطائرات دون ان يكون لهم أى نفوذ فى مصر ، أما " الريس " فبإمكانه أن يدخل الرعب على الأوغاد الأجانب ، كما ان الملوك ورؤساء الوزارات يقطعون آلاف الأميال ليقابلوه ، فهو رمز مصر الحديثة التى لم تعد تثنى ركبتيها أمام أى فرد بعد الآن . "
والآن لنتناول بعض الصفات التى أضفت على صورة جمال عبد الناصر صفة المثل الأعلى للشعب .
الاستقامة
يقول يوجين جوستين رجل المخابرات المركزية الأمريكية :
" مشكلتنا مع ناصر أنه بلا رذيلة مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح ، فلا نساء ولا خمر ، ولا مخدرات ، ولا يمكن شراؤه أو رشوته أو حتى تهويشه ، نحن نكرهه ككل ، لكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئا ، لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد ."
ويقول الكاتب الهندى ديوان برندرنات فى كتابه " ناصر الرجل والمعجزة " :
" إن رذيلة ناصر الوحيدة هى التدخين . ! "
طهارة اليد
يقول الكاتب الأمريكى روبرت سان جون فى كتابه " الريس " :
حجرة الاستقبال فى منزل جمال عبد الناصر بمنشية البكرى حيث أجرى معه حديثا
" . . إن الغرفة بها طاقم من الأثاث المذهب يتكون من أريكة وستة كراسى مغطاة بقماش مطرز بالورد وثلاث مناضد صغيرة
ثم يقول : " أنه منذ ثلاث سنوات ثارت ثائرة الرئيس من جراء مقالة فى مجلة أمريكية قالت أن الأثاث المذهب مأخوذ من أحد قصور فاروق . وكان هذا غير صحيح ، بل إن العكس هو الصحيح ، فهو كرئيس للدولة من حقه أن يقيم فى أحد القصور أو أن ينقل منه ما يشاء من الأثاث إلى منزله الذى تملكه الدولة ، لكن ناصر دفع ثمن هذا الطاقم من جيبه الخاص . "
واقتضت الظروف ان ينتقل الرئيس جمال عبد الناصر للإقامة فى قصر الطاهرة ــ أحد القصور الملكية ــ ولكنه لم يلبث بعد يومين ان عاد إلى منشية البكرى وقال لنا : " انا ما اقدرش أقعد فى مكان كله تحف وأشياء ثمينة . . حأعمل إيه لو حد من الأولاد كسر فازة او اتلف سجادة او شىء من هذا القبيل ؟ " .
وعندما اصيب بآلام فى رجليه طلب الأطباء ضرورة انشاء حمام سباحة وعندما علم بأن مقايسة انشاء الحمام ستتكلف خمسة آلاف جنيه رفض رفضا باتا انشاؤه . .
وإذا استرسلت فى هذه الحكايات سوف احتاج لصفحات وصفحات كثيرة .
رفضه المحاباه
فى العام 1956 أنشئت الوحدة المجمعة فى قرية بنى مر محافظة أسيوط فى صعيد مصر و مسقط رأس جمال عبد الناصر ، واقترح المسئولون عن الحكم المحلى إنشاء قرية نموذجية عند مدخل القرية تضم مائة وثمانى " فيلات " وتتوسطها فيلا على أحدث طراز تخصص كاستراحة لرئيس الجمهورية وابن القرية . و رفض الرئيس جمال عبد الناصر هذا الاقتراح تماما بعد ان كان قد وضع حجر الأساس وأهدت البلدة قطعة الأرض اللازمة لاقامة القرية الجديدة وكانت مساحتها سبعة أفدنة ونصف لجمال عبد الناصر والأسرة . وكان رفض الرئيس بقوله :" لو لم أكن رئيسا للجمهورية ما كان هذا الإجراء ليحدث ، وأنا لا أقبل أى شىء يرتبط بمنصبى كريس للجمهورية . "
أما الكاتب روبرت سان جون فقد كتب فى وصفه لجمال عبد الناصر :
" وهو يعارض بشدة محاباة كبار الموظفين لأقربائهم وقد كان ذلك يعتبر عرفا وليس جريمة فى وقت ما قبل الثورة ، وهو يصر على إنزال العقوبة الصارمة بأى شخص يفعل ذلك ".
ويسرد سان جون بعد ذلك قصة معروفة حدثت فى بداية سنوات الثورة حين اتصل جمال عبد الناصر شخصيا بصاحب جريدة أخبار اليوم قائلا له :
" انت شفت الصفحة الأخيرة ؟ فأجابه . . نعم ، هل تقصد سيادتك صورة والدك ؟ إيه الغلط فيها ؟ فأجابه الرئيس فى لهجة صارمة . . أنا ما بأحبش أن تنشر أخبار أبى وصور عائلتى بين الناس . . انا عاوز أن يعيش أبى وأخوتى مثل الناس العاديين ولا أقبل أن يفسدهم منصبى . . " .
وكانت هذه هى المرة الأولى والأخيرة التى نشرت فيها صورة والد عبد الناصر الذى لم يسمع عنه القراء بعد ذلك إلا حين توفى ونشر نعيه بالصحف .
القوة
إلى جانب محاولة الاغتيال بميدان المنشية فى اكتوبر 1954 كانت هناك صيحته الشهيرة من فوق منبر الجامع الأزهر الشريف حين واجهت مصر العدوان الثلاثى فى اكتوبر1956 حين قال : " سنقاتل . . سنقاتل . . سنقاتل . "
ولا ننسى دعوة الرئيس جمال عبد الناصر الولايات المتحدة الأمريكية لكى " تشرب من البحر الأبيض وان لم يعجبها فلتشرب من البحر الأحمر. . . " وهذه العبارة لم تكن كما حاول البعض ان يفسرها على انها تعبيرا عن عدم الكياسة او عدم مراعاة البروتوكول والعرف السياسى ، فتلك نظرة ضيقة للأمور ساقها بعض المتحذلقين الذين كانوا يهدفون إلى هدم الصورة الجماعيرية لعبد الناصر بأى وسيلة والذين لم نسع وصفهم لما قاله خروشوف فى قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك حيتما خلع حذاءه واخذ يضرب به على المنصة التى أمامه احتجاجا على الكلمة التى كانت تلقى فى ذلك الوقت .
إن دعوة جمال عبد الناصر لأمريكا لكى تفعل ما تستطيع إذالم يعجبها حال مصر كان فى حقيقة الأمر تجسيدا لروح التحدى المتأصلة فى هذا الشعب والتى كان يمثلها جمال عبد الناصر أكثر من أى زعيم آخر عرفه العرب منذ صلاح الدين .
أما استخدامه للمثل المصرى الدارج " اشرب من البحر " للتعبير عن هذه الروح ضد واحدة من أكبر وأقوى دولتين فى العالم فهو لفتة عبقرية أخرى فى قدرة عبد الناصر فى الوصول إلى الجماهير عن طريق التحدث إليهم بلغتهم التى هى لغته أيضا .
إن الرئيس جمال عبد الناصر الذى لم يستعن أبدا فى أى وقت من الأوقات بخبراء علاقات عامة او دعاية لا من الداخل ولا من الخارج نجد أن صورته لا تعكس فقط نقيض ما حدث مع الرئيس السادات ــ الذى استعان بخبرة امريكية فى هذا المجال اتت بنتائج عكسية تماما ملعلنا نذكر تلك الصور التى نشرت فى اخبار اليوم خلال فترة حكمه ــ وإنما هى التى تمثل نموذجا فريدا للجمع بين التقاليد المتوارثة والثورة على القديم فى نفس الوقت ، وهكذا كان الثائر الذى جاء لتغيير ما بشعبه من تخلف وتربطه بالثورة الصناعية والتقنية العالمية يتمسك فى نفس الوقت بأسلوب ونمط حياة محافظة تحترم تعايم الأديان و التقاليد والأعراف والتربية وإن كانت بعيدة عن التزمت .
موقف عبد الناصر من المرأة الأم و نصف المجتمع
لعلنى أكون لست مبالغا عندما أقرر أن موقف الرئيس جمال عبد الناصر من المرأة التى اعتبرها هو عن قناعة تامة الأم التى اوصى بها الدين والرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثا والتى كانت احد الأسباب الرئيسية والأساسية التى حسمت قراره بتعديل قانون الأزهر الشريف ليسمح بانضمام العنصر النسائى لهذه الجامعة الإسلامية العريقة وباختصار لكى يتحقق فتح المجال الصحيح لأم مسلمة تشارك فى خلق المجتمع المصرى الجديد . . .
أعود لسياق الحديث فأقول أن جمال عبد الناصر كان فى سعيه للتحديث يعمل على تحرير المرأة واعطائها حقوقها الطبيعية باعتبارها تمثل جانبا من المجتمع مهضوم الحقوق ، فكان أن نص فى ميثاق العمل الوطنى :
" إن المرأة لابد أن تتساوى بالرجل ، ولابد أن تسقط بتاتا الأغلال التى تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تشارك بعمق وإيجابية فى صنع الحياة . "
كان قرار جمال عبد الناصر منح المرأة حقوقها السياسية كاملة فحصلت على حق التصويت مثلا قبل أن تحصل عليه المرأة فى سويسرا ، كما طبق مبدأ تكافوء الفرص على المرأة فأصبحت مديرا عاما وأستاذا جامعيا ووزيرا ، وبهذه المناسبة فإن ما تتقاضاه المرأة المصرية من مرتبات وعلاوات ومكافآت تتساوى مع ما يتقاضاه الرجل فى نفس الوظيفة فى حين أن المرأة الأمريكية المديرالعام مثلا لا تتقاضى نفسه مرتب المدير العام الرجل بل أقل ، وهذا سائد حتى اليوم .
كان هذا فى الوقت الذى ظلت فيه عقيلة الرئيس جمال عبد الناصر تحتل مكانها التقليدى و البروتوكولى فى المجتمع المصرى فهى دائما إلى جانبه فى المناسبات الرسمية فقط وصورها التى كانت تنشر بالصخف فىهذه المناسبات الرسمية لم يكن يشار إليها إلا بإسم حرم الرئيس .
وبهذه المناسبة فقد حدث اثناء أول زيارة زيارة للرئيس جمال عبد الناصر لليونان وصحبته فيها السيدة قرينته ، وفى حفل الاستقبال كانت المراسم تقتضى فى مثل هذه الرسميات أن يدخل رئيس الدولة المضيفة إلى قاعة الاحتفال متأبطا ذراع حرم الرئيس الضيف احتفاء بها بينما يدخل الرئيس الضيف وقد تأبط ذراع زودة الرئيس المضيف . كان الطاقم المصرى كله على يقين ان الرئيس جمال عبد الناصر سوف يرفض مثل هذا التقليد او البروتوكول الذى يتنافى تماما مع تقاليد البلد وطبعه الصعيدى ، لكن لم يكن أحدا منا فى وضع أن يقدم له الحل البديل لهذه المسألة المعقدة .
وقد تم فعلا رفض الرئيس جمال عبد الناصر ــ حين عرضت عليه ترتيبات الاستقبال وما سيتم فيه ــ رفضا قاطعا وقال إننى أرفض ذلك لنفسى كما أننى لا أستطيع أن اجرح مشاعر الشعب المصرى حين يرى بكرة صورة حرم رئيس جمهوريته وقد تابطت ذراع رجل آخر . وكان ان قام عند الاقتراب من باب القاعة ان تقدم من الملك اليونانى ووضع يده فى يده وتقدما عبر الباب إلى القاعة فما كان من الملكة إلا أن تأبطت ذراع حرم الرئيس ودخلتا سويا للقاعة وانتهت الأزمة الصامتة والتى مرت بهدوء وبكرامة .
عبد الناصر والدين
يقول جورج فوشية فى كتابه " عبد الناصر وصحبه " ، إن قوة الإيمان عند ناصر ترجع للفترة التى عاشها وهو طفل مع عمه فى القاهرة حيث التحق بمدرسة النحاسين الابتدائية والتى تقع أمام مقابر سلاطين المماليك المجاورة لحى الحسين وخان الخليلى وملاصقة للأزهر الشريف ، ويقول فوشيه " إن الجو فى هذا الحى الدينى من مساجد ومشايخ وروائح البخور قد أثر فى شخصية الرئيس وتوج إيمانه بالدين وقيمه الروحية والأخلاقية ومبادئه النضالية . "
كان جمال عبد الناصر فى ذلك أيضا يتسق تماما مع طبيعة المجتمع المصرى والعربى فى تدينه القوى ، وإن كان دون تزمت ودون مظهرية مبالغ فيها لأن المبالغة فى هذه الحالة كثيرا ما تعطى انطباعا معاكسا لدى الجماهير المصرية بالذات .
إن نجاح الصورة الجماهيرية للزعيم السياسى يجب أن تكون فى مجموع صفاتها معبرة عن السواد الأعظم من الشعب حتى يستطيع أن يرتبط بها أكبر عدد من الناس ويجد فيه انعكاسا لأوضاعه الخاصة . فالزعيم الذى تشعر الجماهير أنه بعيد عنها ، أو ينتمى لطبقة مميزة لا تمثل السواد الأعظم منه قد تعجب به وقد تحترمه إذا كان فيه م صفاته ما يحعله أخلا لذلك ، ولكنها يصعب أن تجد فيه نفسها .
جمال عبد الناصر شارك الغالبية العظمى من الشعب المصرى ولا أبلغ إن قلت الشعب العربى وجدانه ، فقد كان أول مصرى يحكم البلاد منذ آلاف السنين ، ولأنه جاء من بين عامة هذا الشعب فقد ظل ولاؤه لهم طوال حياته ولم يحاول أن يستخدم منصبه وجاهه أو سلطته فى حماولة للتشبه بطبقة أخرى غير تلك التى جاء منها . وربما كانت هذه هى أكثر جوانب صورة عبد الناصر الجماهيرية التى أدخلته فى قلوب الملايين من مشرق الوطن العربى إلى مغربه ، ولم تستطع المحاولات المستميتة أن تقتلعه منها ، وقد كان الإبن البار للغالبية العظمى من هذا الشعب ، ومن ذا الذى يستطيع أن يتخلى عن أبنائه بسهولة ؟ .
وها هو إبن هذا الشعب يقول فى 16 أكتوبر 1961 :
" . . لقد قضيت الأيام الأخيرة كلها افكر ، وكنت بمشاعرى مع شعبنا العظيم فى كل مكان ، فى القرى وفى المصانع ، وفى الجامعات ، وفى المعامل ، وفى المواقع الأمامية فى خط النار المواجهة للعدو مع جنودنا ، وفى البيوت الصغيرة المضيئة بالأمل فى مستقبل أفضل ، كنت مع هؤلاء جميعا ، مع الفلاحين ومع العمال والمثقفين والضباط والجنود أحاول أن أتحسس ، وأن أتفاعل بفكرى مع فكرهم ، كانت أصابعى على نبض هذه الأمة صانعة الحضارة ، صانعة التاريخ ، صانعة المستقبل ، وكانت أذناى على دقات قلبها الذى ينبض دائما بالحق والخير والسلام . "
وفى مناسبة أخرى سنة 1968 قال الرئيس جمال عبد الناصر :
" كل ما أتمناه دائما من الله أن أرى طريق الواجب واحفظ الصلة بأحاسيس جماهير هذا الشعب وبوجدانه بدون أى عوائق يضعها الحكم أو السلطة . ذلك أنه بدون الصلة المستمرة بإحساس هذا الشعب ووجدانه يصبح الحكم تحكما وتصبح السلطة تسلطا ."
انحياز الرجل الواضح والصريح للفقراء
لقد نشأ جمال عبد الناصر فىشعب يكوّن الفقراء فيه ما لايقل عن 90% من مجموع الشعب ، وقد شاءت الظروف أن يكون هو من بين هذه النسبة الغالبة من الفقراء .
فى أحد أيام شبابه الصغير سأل والده أثناء تناول الغذاء . . أبى لماذا نأكل اللحم والفلحين الذين يرعون الماشية ويربونها لا يأكلونها ؟
ولما أصبح رئيسا للجمهورية قال:
" . . أنا جمال عبد الناصر أفخر بأن عائلتى لا تزال فى بنى مر مثلكم تعمل وتزرع وتقلع من اجل عزة هذا الوطن وحريته . . إننى أفخر دائما بأننى واحد من أهالى بنى مر ، وأفخر أكثر من هذا بأننى من عائلة فقيرة نشأت فى بنى مر . . وأنا أقول هذا لأسجل أن جمال عبد الناصر نشأ من عائلة فقيرة ، وأعاهدكم بأن جمال عبد الناصر سيستمر حتى يموت فقيرا فى هذا الوطن . "
وعندما وضع جمال عبد الناصر ثابت الاشتراكية كان يعنى به بالدرجة الأولى الكفاية فى الانتاج والعدالة فى التوزيع بمعنى و باختصار شديد ودون الدخول فى تفاصيل وتقعيرات ان تنتج مصر ما تحتاجه من أجل كفاية حاجة الغالبية العظمى الفقيرة من الشعب من غذاء وكساء وتعليم وصحة وحياة مستقرة كريمة وتستفيد الغالبية العظمى الفقيرة من هذه السياسة او من هذا المنهج فى الحياة .
المظهر والحياة المتواضعة البسيطة
إن أول إنطباع لصورة جمال عبد الناصر هى ذلك المظهر البسيط . . ملبس عادى من بدلة كلاسيكية وكرافتة ذات تخطيط مائل من اليسار لليمين والحذاء الأسود ، هذا إذاك كان فى مناسبة رسمية ، أما إذا كان فى المنزل أو فى أوقات غير رسمية فإن القميص والبنطلون والحذاء الخفيف هو اللبس الغالب .
ومنذ 1954 خلع الرئيس جمال عبد الناصر الزى العسكر ولم يضعه إلا مرة واحدة ولمدة ساعتين فقط أثناء زيارتنا ليوغوسلافيا فى يوليو1956 وكان ذلك لتفادى لبس الاسموكنج والفراك .
ولم يرى أحد أثناء حياة جمال عبد الناصر صورة لرئيس الجمهورية فى الحمام او وهو نائم أو وهوبغير ملابس وحتى الصور الغير رسمية فهى قليلة جدا وربما كان أشهرها وهو يلعب الشطرنج وهى وإن كانت صورة غير رسمية إلا أنها تدفعنا للتفكير فى صفات معينة ابرزها الذكاء وحسن التدبير والصبر والشجاعة والحكمة .
والتزام جمال عبد الناصر بالبساطة يتمثل فى أسلوب معيشته الواضح فمثلا أكلته المفضلة كانت قطعة من الجبن الأبيض والخيار والطماطم وفى بعض الأحيان بيضة مسلوقة ، أما غداؤه فلم يتعد الأرز والخضار وقطعة اللحم أو قطعة السمك مما كان يشكل بعض العبء على من حوله .
كان يتعمد تناول طعامه مع قرينته والأسرة يوميا حوالى الثالثة من بعد الظهر يوميا ما لم تكن هناك ظروف قاهرة طارئة تحول دون ذلك ، حيث كانت فرصة لتبادل معرفة أحوال الأبناء فى الدراسة ومشاكلهم وطلباتهم أو الاحتفال بأعياد الميلاد فى أبسط مما يتصوره الانسان .
وفى المساء وبعد انتهاء المقابلات والاجتماعات والرسميات يتوجه الرئيس والسيدة قرينته وفى بعض الأحيان من الأبناء من أنهى واجباته إلى أحدى قاعات المنزل حيث تدور عجلة آلة السينما بواسطة عم إسماعيل ويشاهد الحضور فيلم أو اثنين حسبما تسمح الظروف ولم يخلو هذا أيضا من ازعاجات يقوم بها سامى شرف ليدخل القاعة على ضوء بطارية ليعرض أمر عاجل أو هام على الرئيس . كانت هذه هى المتعة الوحيدة التى يمارسها جمال عبد الناصر مع ماتش تنس لو سمح الوقت فى ملعب داخل منشية البكرى .
جان لا كوتير يقول فى كتابه " ناصر " :
" ان منزل الرئيس ناصر فى منشية البكرى ظل إلى النهاية يعتبر منزلا عاديا لا تميزه أى مظاهر للفخامة التى كانت تتسم بها الكثير من المنازل الأخرى بمصر الجديدة والتى كان يعيش بها بعض المواطنين . "
ويقول روبرت سان جون فى وصفه للبيت الذى كثيرا ما استقبله فيه الرئيس جمال عبد الناصر :
" يعيش الرئيس ناصر هو وأسرته فى منزل بمنشية البكرى لا تحيط به أية مظاهر خاصة تقريبا . . ولا تزال الشطرنج هى لعبته الداخلية المفضلة ، وقد علمه لابنتيه الكبيرتين وابنه الأكبر خالد ، لكنه وجد أن مشاهدة الأفلام تريح أعصابه أكثر من أى شىء آخر ، وحتى قيام الثورة كان يأخذ زوجته إلى السينما مرة أو مرتين فى الأسبوع . . وفى يم الجمعة لا يذهب أولاد ناصر إلى المدرسة ولذلك فيمكنهم ان يسهروا ساعتين فى ليلة الخميس لكى يشاهدوا أحد الأفلام مع والدهم .
وجرت عادة العائلة على أن يسمح لهم باختيار الأفلام التى يريدونها ، لكن والدهم يقول : إن ذوقهم لا يماثل ذوقى فهم يحبون أفلاما أعنف من الأفلام التى أحبها وخصوصا أفلام الحرب ، ولذا فبعد أن يذهبوا إلى نومهم فإننى عادة أضع الفيلم الذى أريده .
وهو يهتم كثيرا بالملابس ، وحتى أيام كان بالجيش كان يلبس الملابس المدنية بقدراستطاعته ولكن سرعان ما يكتشف من يعرفونه ــ إنه لا يملك دولابا ممتلئا بالملابس : " لقد جرت سياستى دائما على أن أشترى بذلة جديدة يفصلها لى ترزى بالقاهرة كل عام ولكننى أغفلت عام 1955 فلم أشترى فيه شيئا "
ونقطة الضعف عنده هى حبه لاقتناء أربطة العنق . . ورباط العنق المثالى بالنسبة له يجب أن يكون به خطوط واسعة ذات ألوان مختلفة ويجب أن يكونغتجاه هذه الخطوط فى المرآة من الشمال إلى اليمين . . وقد جاءته هدايا تتراوح ما بين طائرات يبلغ ثمنها نصف مليون جنيه وكتب موقعة بأسماء مؤلفيها وقد وزعها كلها أو سلمها للدولة لكنه يحتفظ بالهدية إذا كانت رباط عنق مخططا فى إتجاه اليمين . وهو لا يملك ملابس للسهرة لأنه يشعر أن مثل هذه الملابس لا تتناسب مع مصر الحديثة ."
كان من الافلام التى كثيرا مايشاهدها الرئيس جمال عبد الناصر هى تلك التى تتعاطف مع الجماهير الفقيرة والغلابة وتلك التى تمس العواطف ولطالما شاهد فيلم " "فيفا زاباتا " ويحكى عن الاقطاع ومحاربته فى إحدى بلدان امريكا اللاتينية ، وفيلم " IT IS A WONDERFUL LIFE " لجيمس ستيوارت عن الترابط العائلى وكيف تعالج مشاكل الأسرة .
عزوفه عن العنف
من الصفات التى يتصف بها الشعب المصرى بها الشعب المصرى بوجه عام والتى طالما كانت من مقومات شخصيته القومية منذ أيام الفراعنة هو عزوفه الفطرى عن استخدام العنف .
وقد كانت هذه الصفة التى جعلت من ثورة عبد الناصر " ثورة بيضاء " بعكس جميع الثورات الأخرى من الثورة الفرنسية إلى الثورة البلشفية هى احدى أهم سمات الصورة الجماهيرية لجمال عبد الناصر ، وفى ذلك كان السواد الأعظم من الشعب المصرى يجد نفسه فيه .
وهنا أيضا نجد أن جمال عبد الناصر كان يمثل نموذجا فريدا لزعيم يأتى بثورة تطيح بالنظام القديم وتعادى الاستعمار والتبعية فى الخارج والاستغلال والرأسمالية فى الداخل دون أن يلجأ لاستخدام العنف كوسيلة لإحداث التغييرات الجذرية التى كان يسعى لتحقيقها .
لقد كانت تلك الصفة فى شخصيته مثار اهتمام عدد كبير من الكتاب الغربيين والشرقيين على حد سواء زالذين اقترنت الثورة فى تاريخهم الوطنى بالعنف وغراقة الدماء ، ومن بين هؤلاء الكاتب البريطانى ديزموند ستيوارت الذى نشر فى كتابه " مصر الفتية " ' YOUNG EGYPT " حديثا أجراه مع الرئيس جمال عبد الناصر وسأله فيه عن الشخص الذى حاز إعجابه من بين قادة الثورة الفرنسية : دانتون مثلا أم روبسبيير ؟ ، فقال له عبد الناصر على الفور : لا أحد فى الحقيقة ، لقد أعجبت بفولتير لأنه كان رجلا هادئا ولم يكن قاسيا ، أما الباقون فقد كانوا دمويين للغاية ، فقد قتل كل منهم الآخر ، وماتوا جميعا عن طريق العنف . "
وشرح الرئيس جمال عبد الناصر للكاتب البريطانى كيف أنه تعلم من رائعة تشارلز ديكينز " قصة مدينتين " عن الثورة الفرنسية : أنه إذا بدأت الثورة بإراقة الدماء فلن تتوقف عن ذلك وسيقلدها الآخرون . . "
ويقول ستيوارت فى نفس الحديث: " أنه لم يعجب قط بمؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك فقط لأنه كان عنيفا وقاسى القلب . وقد كان هذا هو سبب رفض عبد الناصر الموافقة على إعدام الملك المخلوع فاروق .
وترجع كراهية عبد الناصر للعنف السياسى إلى أحاسيس متأصلة فيه كما هى فى الشعب المصرى ذاته ، وإن كان هو لم يعرف ذلك فى بداية حياته كما يتضح من محاولته الوحيدة مع الاغتيال السياسى وأسجل هنا ما جاء على لسانه حول هذا الأمر :
" كنا قد أعددنا العدة للتخلص من واحد قلنا يجب أن يزول من الطريق . . وكانت الخطة أن نطلق عليه الرصاص وهو عائد إلى بيته ليلا . . وجاءت الليلة الموعودة وخرجت بنفسى مع جماعة التنفيذ وسار كل شىء طبقا لما تصورناه . . فانطلق الرصاص نحوه .
وفجأة دوى فى سمعى صراخ وعويل وولولة إمرأة وبكاء طفل مرعوب ، ثم استغاثة متصلة محمومة ، وكنت غارقا فى مجموعة من الانفعالات الثائرة التى تندفع إلى بسرعة ، ثم أدركت شيئا عجيبا . . كانت الأصوات ما زالت تمزق سمعى رغم ابتعادى عن مسرح العملية باكثر مما يمكن أن يسرى الصوت ، ومع ذلك فقد بدأت الصورة تلاحقنى وتطاردنى .
ولم أنم طول الليل ، كنت أسائل نفسى : هل كنت على حق ؟ أكانت تلك هى الوسيلة الوحيدة التى لا مفر منها ؟ أيمكن حقا أن يتغير مستقبل بلدنا إذا تخلصنا من هذا الواحد أو من غيره ، أم أن المسألة أعمق من هذا ؟
وخلصت من هذا التفكير إلى نتيجة حاسمة : أننا نحلم بمجد امة ويجب أن نبنى هذا المجد ، وإذن يجب أن نغير طريقنا ، ليس هذا هو الحل الإيجابى الذى يجب أن نتجه إليه .
وفجاة وجدت نفسى أقول : ليته لا يموت ! وكان عجيبا أم يطلع الفجر وأنا اتمنى الحياة للواحد الذى تمنيت له الموت فى المساء ! وهرعت فى لهفة إلى إحدى صحف الصباح وأسعدنى أن الرجل الذى دبرت إغتياله قد كتبت له النجاة . "
روح الفكاهة
كنا فى اشد الأيام زحمة فى العمل أو فى الأزمات نصل فى آخر اليوم إلى درجة من الارهاق والأعصاب المشدودة فنفاجأ بالتليفون يجلجل والرئيس على الخط يقول هل سمعت آخر نكتة ؟
ويحكى لنا نكتة اليوم . ومن المعروف أن الشعب المصرى يعبر عن المواقف التى يقابلها سواء كانت عصيبة او غاضبة أو مفرحة بالنكتة وهذا موضوع سوف أتناوله انشاء الله فى دراسة أخرى لو كان فى العمر بقية وبالمناسبة فقد أمضيت جلسات طويلة مع الكاتب الصحفى و الصديق عادل حمودة حول هذه القضية بالذات وصدر عن هذه الجلسات كتيب سنستعرضه فى المستقبل .
تلك كانت بعض المواصفات السريعة المركزة للزعيم الخالد جمال عبد الناصر وهى تثبت أن عماية خلق صورة جماهيرية ناجحة ليست عملية خداع للجماهير فهى لا تعتمد على اصطناع ما ليس موجودا فى الزعيم بالفعل ، إنما هى تستخدم بعض الوسائل العلمية لكى توصل إلى الجماهير بعض صفات الزعيم التى من شأنها أن تخلق له صورة جماهيرية ناجحة تفتنع بها الجماهير فتتشبث بها مما يساعد الزعيم على تنفيذ سياساته الهادفة دائما وأبدا إلى تحقيق المستقبل المشرقو الواعد لشعبه .
إن صنع الصورة الجماهيرية الناجحة للزعماء هى إذن عملية خلق وليست اختلاقا . إن انشغال الزعيم السياسى بصورته الجماهيرية ليس من قبيل الترف وإنما هى فى حقيقة الأمر الأداة الرئيسية لتحقيق سياسته ، بل إن البعض يذهب إلى أن الصورة الجماهيرية فى التحليل الأخير تساوى الزعيم نفسه لأنها كل ما تبقى منه للتاريخ ، وليس صحيحا أن ما يبقى من الزعيم هو أعماله الملموسة والمحسوسة ، وإنما ما يبقى من الزعيم هو صورته غير الملموسة وغير المحسوسة ، فالأعمال العظيمة التى يقوم بها الزعيم يمكن أن يهدمها النظام الذى يليه أو يحاول تشويهها ن لكن صورته الجماهيرية هى ما لا تستطيع أى يد أن تطولها ، فهى محفوظة فى أفئدة الناس ، أفئدة الجماهير ذاتها ، وذلك يحصنها ضد محاولات العبث بها .
وللتدليل على هذه الرؤية ، دعونا نتساءل :
أين قوانين جمال عبد الناصر الاشتراكية ؟
وأين الاصلاح الزراعى ؟
وأين المصانع التى بناها جمال عبد الناصر ؟ أين القطاع العام ؟
وأين الاتحاد الاشتراكى ؟
وأين الحياد الإيجابى ؟
وأين القومية العربية ؟
أما الصورة الجماهيرية لجمال عبد لناصر فلا تزال و سوف تظل باقية مما ستدفع بأجيال جديدة قادمة بتحقيق احلام وأمنيات تكمل المسيرة التى بدأها عبد الناصر العظيم بالرغم من نكسات وتراجعات وانقلابات حاولت وتحاول المساس بالتجربة الانسانية من أجل الحرية والاشتراكية والوحدة .
سامى شرف
سكرتير الرئيس جمال عبد الناصر للمعلومات
وزير شئون رئاسة الجمهورية الأسبق
مصر الجديدة فى 15يناير2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق