“يبدو أن أول بيان أذيع للحرب في الثانية من ظهر السبت 6 أكتوبر 73 ، كان يحمل في طياته شجنا لا أعرف مصدره … وألما يعتصر قلبي لم أجد له مبررا … انتابني شعور بالقلق علي زوجي لدرجة أنني كنت أرتدي ثيابا غامقة دون سبب واضح”.
هذه الكلمات أفضت بها السيدة زينب عبدالله- زوجة أحد شهداء حرب أكتوبر المقدم محمد محمد زرد، ابن قرية تفهنا العزب، مركز السنطة بمحافظة الغربية”، للكاتبة الصحفية منال نور الدين والتي وثقت لهؤلاء الشهداء الذين شاركوا في صنع النصر المجيد، في كتابها ” الشهيد ، صفحات من ذاكرة العسكرية المصرية”، عن الهيئة العامة للكتاب، وذلك من خلال حواراتها الصحفية مع الكثير من أسر شهداء أكتوبر.
حيث وثقت “نور الدين”، لأيام الحزن والألم التي عاشتها أسر الشهداء، فذهبت إلى القري والنجوع لتفتش عن المنسيين ولتنفض عنهم غبار الذاكرة، ذهبت تبحث عن ذكريات باقية في عقل ووجدان كل من اقترب من الشهيد، واكتشفت أن بعض أبناء الشهداء لم يطالعوا وجه آبائهم، ولم يدركوا ملامحهم، وصاروا يتحدثون معها من خلال قصاصة في مجلة أو صفحة في كتاب، ومن بينهم خالد زرد- ابن الشهيد محمد زرد، الذي استشهد في الثامن من أكتوبر 73 وعمره ثلاثون عامًا، وترك خالد طفلا لم يتعد عمره شهرين وزوجة شابة لم تتعدي الثانية والعشرين من عمرها، وبطولة فذة يشهد لها التاريخ العسكري المصري.
وتحكي أرملة الشهيد محمد زرد
“عندما تأخر عن عودته من الجبهة، بدأ القلق يتسرب من نفسي إلى كل من حولي بعد أن فشلت محاولاتهم في إخفاء هذا القلق، وبعد أن انتهت كل المبررات التي يمكن أن ترد علي تساؤلاتي عن غيابه، وفي اليوم الرابع من شهر فبراير 1974 ذهب شقيقي الأصغر للمدرسة واشتري إحدي الصحف اليومية وفوجيء في الصفحة الأولي بإحدي البطولات التي تمت في الحرب جاء في ختامها اسم الشهيد محمد زرد، ومازلت احتفظ بهذه الصحيفة حتي الآن .. وأدركت في هذه اللحظة فقط صدق أحاسيسي التي لم تخطيء أبدا”.
كان البطل مكلفا هو ومجموعته بتدمير موقع العدو الحصين في النقطة 149 ، وبعد أن ارتفع العلم المصري علي الموقع الحصين كان البطل يضع يده علي بطنه المجروح وابتسامة الرضا تعلو ملامح وجهه الطاهر البريء، بعد أن جمع بين الحسنيين النصر والشهادة معًا.
ومن شهيد الموقع الحصين إلي شهيد موقعة كبريت “العقيد إبراهيم عبدالتواب ابن محافظة أسيوط”، فبمجرد أن وطأت قدماه أرض موقعة كبريت، في 9 أكتوبر بادر جنوده بقوله : أنني سوف أموت هنا ، وأخذ في إملاء وصيته للمحيطين به، وكانت تتلخص في أمنيته أن يلف جسده الطاهر بعلم مصر، ويواري التراب، أما الجزء الثاني من الوصية فكان يتمثل في تسليم ابنته الكبري المصحف والمسبحة الشخصية اللذين لا يفارقان سترته، ويبدو أنه كان يقرأ سطور النهاية منذ أن دلف الي هذا الموقع عندما طلب من القائد بدلا من أن يعطيه علما واحدا لرفعه علي الموقع ، طلب علما آخر دون إبداء الأسباب.
أما الشهيد سيد زكريا- ابن قرية البيضة بمحافظة قنا، فقد قام ببطولة نادرة في حرب أكتوبر واستشهد مع آلاف الشهداء، ولم يعلم أحد شيئا عن بطولته إلا بعد 22 عاما، عندما اعترف بشجاعته الفائقة الجندي الإسرائيلي، الذي شاهده وهو يسقط شهيدًا بعدما أطلق آخر رصاصة من مسدسه فتقدم وأخذ سلاحه ومحفظته الشخصية، وحسبما تحكي أسرته ، كان سيد فلاحا بسيطا يعاون والده ولم ينتظر استدعاءه للتجنيد، بل تقدم من تلقاء نفسه، وتم تجنيده في أكتوبر 1970 أثناء حرب الإستنزاف وانضم إلى سلاح الصاعقة، وكانت وحدته أثناء حرب أكتوبر مكلفة بمهمة قتالية في جنوب سيناء خلف خطوط العدو، واشتبك هو ورفاقه مع فصيلة المظليين الإسرائيليين في اليوم الثامن للحرب بمنطقة رأس ملعب ووادي غرندل ، وقاموا بتنفيذ عدة كمائن ، واستشهد بعد أن قتل بمفرده كل أفراد الفصيلة بمن فيهم قائدها.
لقد استشهد سيد ولم ينسه الأعداء ، الذين ذاقوا الموت علي يديه ، وفي برلين ذهب مسئول إسرائيلي الي رئيسة المكتب الدبلوماسي المصري د. عزيزة مراد وروي حكاية المعركة البطولية التي أدارها هذا البطل ، وسلم متعلقاته التي احتفظ بها الجندي الإسرائيلي لمدة 22 عاما وهي عبارة عن :
تحقيق الشخصية العسكرية رقم 5445404 ، نموذج استدعاء وتصريح بإجازة مدنية ، إيصال حوالة بريدية بمبلغ 750 قرشا مصريا أرسلها لأهله، حافظة نقود بها مبلغ 131 قرشا مصريًا.
هذه نماذج لمن رحلوا تاركين وراءهم أكوام من الحزن الدفين الممزوج بالفخر والعزه ، ومؤكد أن هناك شهداء كثيرين لم ننفض عنهم غبار الذاكرة بعد.
زيزى شوشة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق