تميزت كتابات سيد قطب عن كتابات حسن البنا بأن الأول كان واضحاً وصريحاً في طرح أفكاره التكفيرية عن المجتمعات الإسلامية، وعلي رأسها المجتمع المصري، التي وصمها بالجهالة.
رغم اعترافه بأن أهلها مسلمون ولكنه أنكر إسلامهم «وإن صلوا وصاموا وحجوا البيت الحرام» «معالم في الطريق ص 116»، ثم طالب جماعته «الإخوان» بعد ذلك بهدم وتقويض هذه المجتمعات الجاهلية التي كفرها ليقيموا علي أنقاضها المجتمع الإسلامي من وجهة نظره، وسيد قطب في كتاباته هذه لم يلجأ إلي أسلوب حسن البنا الذي استخدم المراوغة والتقيا للتغطية علي أفكاره ومبادئه التكفيرية التي وضع أطرها التأسيسية عندما أسس جماعته عام 1928، وتدرج في الإعلان والكشف عنها طبقاً للظروف، ولكن سيد قطب طرح كل ذلك بشكل مباشر وعنيف وتحريضي في كل من كتابيه «في ظلال القرآن» و«معالم في الطريق» دون لف أو دوران أو تورية، وهو ما اعتبره بعض من أرخوا لسيد قطب «تجديدا لشباب الجماعة الفكري والحركي» وفي ذلك يقول صلاح شادي أحد قادة الإخوان «إذا كان حسن البنا البذرة الصالحة للفكر الإسلامي، فإن سيد قطب كان الثمرة الناضجة لهذا الفكر». أما مرشد الجماعة الثاني حسن الهضيبي فقد وصف سيد قطب بأنه «الأمل المرتجي للدعوة الآن»، وبالطبع لم يكن هذا الاعجاب بشخص سيد قطب، بل لأن كتابيه المشار إليهما كانا الأكثر تطرفاً وتشدداً وشراسة في التهجم علي المجتمع المصري.
- أما وجه الخطورة في كتابات سيد قطب فهو في قيام جماعته «الإخوان» بتفسير أقواله وأفعاله علي هواها باعتباره الأب الروحي الذي تستند إليه في حيثيات حكمها علي جاهلية وكفر المجتمع المصري، وتستخدمه في تبرير كل ما قامت وتقوم به من أعمال إرهابية شملت اغتيالات وتخريباً وتدميراً، فقد اتخذوا من أفكار سيد قطب شماعة يعلقون عليها جرائمهم وجموحهم ضد المجتمع المصري، وهو ما شكل إساءة بالغة للإسلام والمسلمين.
تأثره بالنشأة
- ولد سيد قطب في قرية «موشا» بأسيوط في 9 أكتوبر 1906 وسط أسرة متوسطة، باع أبوه معظم ما ورثه من أرض ليؤكد تميزه وكونه واحداً من الأعيان الأمر الذي أثار استياء أمه، وكان قطب متعلقاً بها كثيرا فقد كانت أكثر ثراء من أبيه، وأصيب قطب في مرحلة صباه بمرض أصاب مفاصل عنقه فكان لا يستطيع تحريك رقبته إلا في ناحية واحدة، وكان وحيد أبويه بجانب بنتين هو أوسطهما وأخ توفي بعد أسبوع من ولادته، ما ترك أثراً سيئاً في نفس سيد قطب الذي كان يطمع في أن يكون له أخ شقيق، خاصة أن له أخاً غير شقيق آثر ألا يذكره عندما دون سيرة حياته، الأمر الذي جعله متميزاً في أسرته وموضع احترامها وتقديرها، لذلك لم تدخله كُتاب القرية بل دخل المدرسة مباشرة في سن السادسة، وحفظ القرآن وهو في العاشرة.
- وفي مدرسته
عرف سيد قطب بالجرأة علي ناظر المدرسة والمدرسين، خاصة أنه كان متفوقاً في دروسه، وهو ما ولد لديه شعوراً مبكراً بذاته، وأخذ يتشبه بالرجال ويسلك مسلكهم، وعندما أوشكت الحرب العالمية الأولي علي الانتهاء باندلاع ثورة 1919 كان سيد قطب يحضر اجتماعات الحزب الوطني ثم حزب الوفد، ويكتب الخطب المؤيدة للثورة ويضمنها أبياتاً من شعر متهالك يلقيها في المساجد والتجمعات، وبرز في هذه المرحلة اهتمامه بشراء الكتب الصفراء مثل كتاب «أبي معشر الفلكي» في الفلك والتنجيم وكتاب «شمهورش» الذي يحمل كثيراً من الرقي والتعاويذ والأحجية والوصفات التي يتصور الناس أن بعضها يجلب المحبة بين الزوجين، وكان إقبال الناس في القرية كثيراً علي شراء هذه الكتب من سيد قطب، وكان يوصل بعضها بنفسه إلي النساء والمنازل بلا تحرج.
- وعندما هدأت الأمور بعد ثورة 1919 رحل إلي القاهرة عام 1922 ليستكمل دراسته في المدرسة الأميرية وانتهي منها في عام 1924، وعمل مُدرساً بإحدي المدارس الأولية وببعض الصحف مصححاً لما ينشر فيها، وفي الوقت نفسه التحق بمدرسة دار العلوم سنة 1929، وأنهي دراسته بها في 1933، وفي هذه الفترة اتصل بندوة الكاتب عباس العقاد، وواظب علي حضورها، واتضحت ميوله للكتابة الأدبية والنقدية منذ كان طالباً بدار العلوم، وفي سنة 1933 صدر كتابه الأول «مهمة الشاعر في الحياة»، وبعدها بعامين، أصدر ديوانه الأول «الشاطئ المجهول»،وصار ينشر مقالات له في صحف البلاغ وكوكب الشرق والأهرام والمصور والمقتطف ومجلة أبوللو وصحيفة دار العلوم.
إساءته للرسل ودعوته للفحشاء
- وفي سنة 1939 نشر في مجلة «المقتطف» بحثاً بعنوان «التصوير الفني في القرآن» وللأسف اعتبره من سجلوا سيرة سيد قطب أنه كان «بداية اهتمامه بدراسة القرآن الكريم أدبياً وفنياً» «حلمي النمنم- سيد قطب وثورة يوليو ص46»، ولكن كان هذا الكتاب في الواقع إساءة إلي رسل الله الكرام وخروجاً كاملاً علي الحكم بما أنزل الله في ركن أساسي من أركان الايمان وهو الايمان بالرسل الموصوفين بالعصمة المطلقة مصداقاً لقوله تعالي: «وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عبادُ مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون» «الأنبياء 26-27» كما يأمرنا المولي عز وجل بضرورة التوقير الكامل لحضراتهم والتزام الأدب المطلق في الحديث عنهم، إذ يقول تعالي «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً» «النور 63» إلا أن كل من يطالع كتاب سيد قطب هذا يجد فيه خروجاً كاملاً علي كل ما يأمر به المولي عز وجل من توقير رسله الكرام، حيث يسيء المؤلف أشد الإساءة لحضراتهم، ويأتي بكل الإسرائيليات والاتهامات الباطلة والاقوال الفاحشة عن حضراتهم، بل ويصل به الأمر إلي حد وصفهم بأسوأ الأوصاف وتصويرهم في أسوأ الصور، حيث ينسب في كتابه هذا الآثام والفواحش لرسل الله الكرام ويصفهم بما يعف اللسان أن يصف به أي مؤمن.
- فنجده يصف سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام - وهو الأب الأول للبشرية وأول الرسل أولي العزم - بأنه «نموذج للضعف البشري الأكبر الذي يجمع كل نواحي الضعف الأخري» ويصف سيدنا موسي عليه الصلاة والسلام، وهو ثالث الرسل أولي العزم بأنه «نموذج للزعيم المندفع العصبي المزاج» بل ويتهمه «بالتعصب القومي والانفعال العصبي»، بل ويزعم أن حضرته كان «ينسيه التعصب والاندفاع استغفاره وندمه» ثم نجد سيد قطب يصور علاقة سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام بامرأة سبأ لا علي أنها علاقة الهداية والدخول في دين الله علي يد رسول كريم وإنما علي أنها علاقة رجل وامرأة بكل ما في ذلك من الإيحاءات الفاحشة.. فيتحدث عن سيدنا سليمان عند التقائه بامرأة سبأ فيقول بالحرف الواحد: «هنا يستيقظ الرجل الذي يريد أن يبهر المرأة بقوته وسلطانه» ثم يعلق علي ذلك بالزعم بأن سيدنا سليمان قد ورث التعلق بالنساء عن أبيه سيدنا داود.. فيقول بالحرف الواحد «وسليمان هو ابن داود صاحب التسع والتسعين نعجة الذي فتن في نعجة واحدة»، ويعلق علي ذلك بقوله «ففي قصة داود إشارة إلي فتنته بامرأة مع كثرة نسائه»، وسيد قطب في ادعائه الكاذب هذا يتجاهل قول المولي عز وجل «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوي فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب»، حيث فسر سيد قطب كلمة «الهوي» هنا بما تهواه نفسه هو من شهوات، ومتجاهلاً عدة حقائق مهمة تحويها هذه الآية الكريمة، أبرزها أن المولي عز وجل وصف سيدنا داود بأنه خليفة الله في الأرض بكل ما تحمله هذه الجملة من معان كريمة ومقدسة بحكم نسبة الرسول إلي الذات الإلهية، كما تجاهل قطب أيضاً كل الآيات التي تؤكد عصمة رسل الله تعالي، وأبرزها «والله يعصمك من الناس»، ومن ثم فلابد من فهم لفظ «الهوي» الذي وصف به هذا الرسول الكريم بما يتفق والعصمة، وأن نفكر قليلاً لنعلم ماذا تهوي أي نفس زكية مؤهلة لتبليغ رسالة الله عز وجل؟ ألا تهوي مثل هذه النفس الطاهرة ما يتفق وما جُبلت عليه من حب الله تعالي والتأمل والاطلاع علي غيب السماوات والأرض حتي تزداد تعظيماً وتقديساً لبارئها؟ أليس ذلك هو أقرب منهما إلي العقل السليم والقلب الواعي من تلك الخرافات المشينة المنقولة عن الإسرائيليات التي ألصقت بهذا الرسول الكريم؟ ثم لفت الله نظر الناس في نفس الآية إلي حكم الله في الهوي الذي تهواه النفوس الأخري الضعيفة التي جُبلت علي مخالفة وعصيان رسل الله بأن جزاءهم جهنم وبئس المصير لأن «هوي» أنفسهم ليس من جنس «هوي» رسل الله الذين أرسلهم الله قدوة وأسوة لأممهم، ولا يعقل أن يرسل الله رسولاً لكي يكون أسوة وقدوة سيئة لتابعيه، ثم يؤاخذهم علي ما فعلوه إذا اقتدوا بهم، حاشا لله أن يظلم مثقال ذرة.
- وبنفس هذا الفكر الفاحش الذي يتناول به سيد قطب القصص القرآني، نجده يعرج علي قصة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام، فيتهمه بأنه همَّ بارتكاب الزني وإنه كاد يضعف أمام امرأة العزيز فيقول «وأنا أري أن الهم هنا كان متبادلاً في اللحظة الأولي ثم رأي برهان ربه فتاب إلي نفسه»، وعلي أساس قاعدة عصمة الرسل يمكننا أن نعرف التباين والمفارقة في تأويل المقصود من لفظ «همت به» ونوع همها هذا الذي يتفق مع عقلية امرأة كلها رعونة وطيش «وهم بها» أي بدفعها عنه بعنف، وهذا هو المقصود من هم رسول عظيم مثل سيدنا يوسف عليه أفضل الصلاة والسلام، ومن ثم فقد رأي برهان ربه، وهو الملك الموكل بتربيته يشير إليه بأن الرسل لم تُجبل علي فظاظة أو خشونة، فخرج هارباً معرضاً عنها: «فقدت قميصه من دبر» هذا فضلاً عن اعتراف المرأة نفسها بأنها راودته عن نفسه ولكنه استعصم.
- كما يبلغ سيد قطب في كتابه «التصوير الفني للقرآن» أقصي درجات الإساءة إلي السيدة مريم، حتي إنه في وصف حضرتها في خلوتها يشبهها تشبيها فاحشاً بالفتاة في حمامها، فيقول: «ها هي ذي في خلوتها مطمئنة إلي انفرادها يسيطر علي وجدانها ما يسيطر علي الفتاة في حمامها»، ثم يمضي في تصويره الفاحش فيقول «ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة تنقل تصوراتها بعيداً.. فتنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها»، ثم يصور الأمر الإلهي بخلق سيدنا عيسي عليه الصلاة والسلام كما لو كان جريمة اغتصاب لفتاة عذراء، فيقول في وصفه لشعور السيدة مريم عندما جاء الملك بالأمر الإلهي «قد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول وهو أنه يريد أن يهب لها غلاماً وهما في خلوة وحدهما.. ثم تدركها شجاعة الانثي تدافع عن عرضها»، بل ويزعم سيد قطب أن القرآن قد ترك الخيال ليتصور ذلك بين «الرجل الغريب والفتاة الخجول» فيقول قطب: «هنا نجد فجوة من فجوات القصة.. فجوة فنية كبري.. فترك الخيال يتصورها كما يهوي»، فهل هذا الكلام الهابط والساقط من جانب سيد قطب يمكن أن يجوز في حق السيدة مريم التي يخاطبها المولي عز وجل بقوله تعالي: «يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك علي نساء العالمين» «آل عمران 42»، بل هل يجوز في حق القرآن الكريم كتاب الله أن يصفه سيد قطب بأن فيه «فجوة فنية كبري»!! ولكنه، كلام قطب، الذي يعكس ما في داخل نفسه من فحش ومنكر وسوء خلق ونقص إيمان فيمن اصطفاهم المولي عز وجل علي العالمين، ثم أين ما يزعمه سيد قطب ومريدوه والمدافعون عن كتابه هذا من فن وأدب في كل هذا الكلام الهابط الذي حول به سيد قطب القصص القرآني الذي وصفه المولي عز وجل بأنه «أحسن القصص» إلي أسوأ القصص، وفي قول المولي عز وجل «فاقصص القصص لعلهم يتفكرون» «الأعراف 176» فهل من الحكمة الإلهية أن يأمر الله الرسل بأن يتفكر الناس في جرائم كما هو واضح من كتاب سيد قطب فضلا عن الاسرائيليات، والذي يسيء أبلغ إساءة إلي رسل الله، فهل هناك من هدم لعقيدة المسلم أخطر من ذلك؟
- إن دعوة سيد قطب التي تصف الرسل بهذه الأوصاف الذميمة وتروج لهذه المعتقدات لا يمكن أن تكون دعوة للهداية وإنما هي دعوة إلي الفحشاء، فإذا كان المولي عز وجل يأمرنا بالتأسي برسل الله الكرام والطاعة الكاملة لحضراتهم مصداقاً لقوله تعالي: «لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة» فإن ترديد سيد قطب للإسرائيليات التي تسيء إلي رسل الله إنما هو تشكيك في أن هؤلاء الرسل هم الأسوة الحسنة للمؤمنين، كما يشكك في اصطفاء المولي عز وجل لحضراتهم لحمل رسالاته، وسيد قطب في هذا إنما يفتح الباب علي مصراعيه أمام الناس لارتكاب ما يشاءون من الفواحش طالما أن هناك من ينسب هذه الفواحش ذاتها إلي رسل الله وهم الأسوة التي يجب علي كل مسلم التأسي بها، فكيف يمكن لسيد قطب الذي يدعو إلي هذه المعتقدات في رسل الله أن يدعو المسلمين بعد ذلك إلي «الحكم بما أنزل الله» وهو الذي لم يلتزم بالركن الأساسي في الايمان وهو الايمان بعصمة الرسل وتوقيرهم التوقير الكامل؟! بل وكيف يحق لسيد قطب أن يرمي المسلمين بالكفر ويصم مجتمعاتهم بالجاهلية، ثم يزعم انه يستهدف الوصول إلي الحكم بدعوي اعادة المسلمين إلي الاسلام من جديد؟! ان نظرة واحدة إلي هذه المعتقدات عن رسل الله التي يروج لها سيد قطب في كتبه تقطع بأن كل ما يدعو إليه باسم (الحاكمية لله) أو (الحكم بما أنزل الله) إنما هي شعارات لا تستهدف سوي الوصول إلي الزعامة والسلطة.. وليس لها علي الاطلاق أية علاقة بالهداية وتربية النفوس وتطهير القلوب والتأسي برسل الله الكرام والاهتداء بهديهم، وهو أساس أي دعوة صادقة إلي الله تعالي، ومقصد القرآن الكريم علي حكم قوله تعالي: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم».
التضارب والانقلابات في علاقات قطب بالآخرين
- مع بداية الخمسينات برز سيد قطب ككاتب وشاعر وأديب وناقد، اقترب جداً من عباس العقاد، بل وعاش في كنفه، واستفاد كثيراً من هذه العلاقة، حيث قدمه العقاد إلي معظم الصحف والمجلات التي كتب فيها، ولكن رغم هذه العلاقة القوية التي ربطت بين الرجلين حوالي ربع قرن انفصلا واختلفا، وكان السبب رفض العقاد أن يكتب مقدمة لكتاب سيد قطب. وهذا الاضطراب في علاقات سيد قطب بغيره من الناس يمكن اعتبارها سمة اتسمت بها سلوكياته عبر تاريخه الأدبي والسياسي وحتي اعدامه- فإنه يحب ثم يكره، وفي كلا الحالين يكون الغلو سمة مميزة في أقواله وأفعاله.
- كذلك كان الأمر مع طه حسين، ففي كتاب سيد قطب (طفل القرية) والذي ضاهي به كتاب الأيام لطه حسين، كان الاهداء: «إلي صاحب كتاب الأيام، إلي د.طه حسين بك، انها يا سيدي كأيامك، عاشها طفل في القرية، في بعضها من أيامك تشابه، وفي سائرها عنها اختلاف، بمقدار ما يكون بين جيل وجيل، وقرية وقرية، وحياة وحياة». ولكنه لا يلبث أن يهاجم طه حسين هجوماً شديداً لديداً وقاسياً، ونقرأ كمثال: «ان مذهب طه حسين هو طه حسين نفسه، أي انه موهبة بلا امتداد وبلا تلاميذ». ويفسر البعض هذا التناقض في موقف سيد قطب من طه حسين، بأنه خاض هذه المعركة إرضاء لأستاذه العقاد الذي كان آنذاك يخوض ذات المعركة، ويري آخرون ان «شهرة سيد قطب النقدية قد جاءت بسبب هجومه القاسي علي طه حسين».
- ويرجع البعض هذا الاضطراب في كتابات سيد قطب عن العقاد وطه حسين.. وغيرهما إلي انه انتظر وطال انتظاره أن يعاملوه بالمثل، ويردوا إليه التحية بمثلها وليس بأحسن منها، ولكن دون جدوي، لذلك انقلب عليهم جميعاً بعد أن تجاهلوا أعماله، وهذا سبب تمرده وسخطه علي النقد والأدب والشعر واتجاهه إلي الكتابة عن القضايا الاجتماعية والسياسية، وكان هذا التوجه الجديد والتحول في الاهتمام طبيعياً أمام عدم نجاح كتاباته السابقة وعدم تحقيق ما يريد منها.
- وإذا انتقلنا إلي التضارب والانقلابات في حياة سيد قطب السياسية، نجد ذلك واضحاً جلياً في تأييده ودعمه لثورة 23 يوليو 1952، ومساندته المطلقة لقادة الثورة، وهجومه الشديد علي عصر الملكية السابقة، بل ومطالبته قادة الثورة بممارسة ما أطلق عليه (ديكتاتورية اصلاحية)، وكان سيد قطب يطمع في أن يتولي أحد منصبين: وزير المعارف أو مدير الإذاعة، ولما فشل في تحقيق هذا الهدف انقلب علي قادة الثورة وهاجمهم بعنف حتي انه حرض جماعته علي اغتيالهم، وهو ما سنتعرض له بالتفصيل في حلقة قادمة.
الإباحية والمجون عند سيد قطب
- ويمضي سيد قطب يكتب شعراً ونثراً ونقداً وسيرة ذاتية، بعضها يحمل أفكاراً ذالت طابع ليبرالي صارخ، وأحياناً ذات طابع إباحي ماجن. فقد كتب كثيراً عن الترجمة العربية التي قام بها د.إبراهيم أمين الشواربي لغزليات الشاعر الفارسي حافظ شيرازي، وينتقي منها ما يؤكد تغلغل العامل الجنسي في أهوائه، مثل: «ان شفة الحبيب ياقوتة ظمأي إلي الدماء، وأنا من أجل رؤيتها أضحي بالروح». ويستطرد سيد قطب قائلاً: «مبعثر الخصلات، محمر الوجنات، ضاحك الأسنان تلعب به الخمر، سكران، ممزق القميص، يتغني بالألحان، في يده إبريق من بنت الحان.. وها قد شربنا ماصبه الساقي في كؤوسنا. ثم يعلق سيد قطب علي شعر حافظ شيرازي هذا قائلاً: «إن كاتب هذا الشعر نشوان بالخمر الالهية أو النواسية (نسبة لأبي نواس) وليقل ما يشاء وكيف يشاء، فهو خير عند نفسه وعند الله من المرائين المنافقين ومن الوعاظ الثقلاء»! وكلمات كهذه هي التي دفعت البعض إلي التشكيك في مدي تدين سيد قطب، ومن هؤلاء الناقد محمد الغمراوي- أستاذ الكيمياء بكلية الطب- معرضاً بسيد قطب قائلاً: «ليست المسألة بين القديم والجديد كما يسمونها، وليست اختياراً بين أدب وأدب، وطريقة وطريقة، ولكنها في صحيحها مسألة اختيار بين دين ودين». وقد رد عليه سيد قطب رداً عنيفاً طالبه فيه بتنحية الدين جانباً بعيداً عن القضايا الأدبية والعلمية، وهو ما دفع البعض لاتهامه بالعلمانية، فضلاً عن الإلحاد وشكه في الدين، وفي ذلك يقول سليمان فياض في مقال له بمجلة الهلال- سبتمبر 1986 بعنوان: سيد قطب بين النقد الأدبي وجاهلية القرن العشرين: «انه سمع بأذنيه من سيد قطب انه ظل ملحداً أحد عشر عاما». يؤكد ذلك ما قاله عباس خضر في سلسلة اقرأ تحت عنوان (هؤلاء عرفتهم) مارس 1983 ص56: «ان سيد قطب قال له يوماً ان الدين ضرورة لقيادة القطعان البشرية، ولا يمكن أن يسلس قيادها بغيره». والغريب في شأن هذه القصة التي يطالب فيها سيد بتنحية الدين جانباً بعيداً عن القضايا الأدبية والعلمية، نجده بعد ذلك ببضع سنوات يصدر كتابه (معالم في الطريق) الذي يخلط فيه وبشدة بين الدين والسياسة إلي حد مطالبة جماعته باستخدام العنف باسم الدين من أجل الوصول إلي السلطة والحكم!.
- ومما قيل أيضاً عن سيد قطب انه كان إباحياً وماجناً وداعياً إلي العري التام، وفي ذلك يقول المؤرخ الإخواني محمود عبدالحليم انه «قرأ مقالاً منشوراً في الأهرام في 17 مايو 1934 للأستاذ سيد قطب يدعو فيه إلي العري التام، وإلي أن يسير الناس في الشوارع عرايا تماماً كما ولدتهم أمهاتهم»، ثم يستطرد المؤرخ الإخواني قائلاً: «انه عرض علي الأستاذ حسن البنا أن يرد عليه، لكن البنا منعه حتي لا تشتهر هذه الفكرة، ولعل الله يهدي سيد قطب»، ورأي هذا المؤرخ أن سيد قطب كان متأثراً في هذه الدعوة بموجة العري التي كانت تجتاح أوروبا والولايات المتحدة آنذاك.
- ويستند من يتهمون سيد قطب بالإباحية والمجون إلي قول صديقه عباس خضر بأنه كان «علي كثير من المجون الذي يصطنعه بعض الأدباء». وتتأكد هذه الخاصية في كتابات سيد قطب بما ذكره د.صلاح الخالدي في كتابه (سيد قطب بعد الميلاد إلي الاستشهاد) والذي ذهب فيه إلي أن قصة الحب داخل رواية (الأشواك) التي كتبها سيد قطب هي قصة وتجربة سيد قطب نفسه، وفي الرواية مشاهد تكشف عما يمكن تسميته بالمجون، فالبطل في الرواية (سامي) والذي هو سيد قطب- يذهب إلي (سميرة) خطيبته وحبيبته في المنزل «يقتحم عليها حجرة نومها ويفاجئها وهي أدني العري منها إلي الستر، وكانت تخول له أن يبيت في دارها دون أن يعترض والدها علي ذلك، وكانت تتيح له أن ينفرد بها في ممر الدار، ويعتصرها اعتصاراً، ويرتشف منها ما «شاء من رحيقها المذخور». ويمضي سيد قطب في روايته بأن (سميرة) صدمته عندما صارحته بأنها أحبت قبله شاباً غيره هو (ضياء) وكان حباً عنيفاً. وعاش (سامي) في حياة من (الأشواك) عدة سنوات غير قادر علي إتمام الزواج بعدما صارحته به، وغير قادر علي الابتعاد عنها، لأنه يحبها ولا يمكن أن يعيش بدونها، ولم تحقق الرواية أي نجاح، ولم يثن عليها ولا أشاد بها أحد من النقاد». ويعلق د. صلاح الخالدي علي القصة بأنها تعبر عن تجربة شخصية وذاتية لسيد قطب، وأطلق عليها حبه الثاني في القاهرة، وقال ان قصة الحب تلك وقعت أواخر الثلاثينيات، وأن مصدر هذه المعلومة هو شقيق سيد الأصغر محمد قطب. ومن المعروف ان سيد قطب لم يتزوج في حياته.
- ويذكر الأستاذ حلمي النمنم في كتابه (سيد قطب وثورة يوليو) ص69: «قال لي أحد الصحفيين القدامي، الذين عملوا مع سيد قطب في مجلة (العالم العربي) انه حتي سنة 1948، كان يتردد بين الحين والآخر علي بار (اللواء) ويحتسي قليلا من (الكونياك) وكان مشروبه المفضل».. ثم يمضي الأستاذ النمنم قائلاً: «حكي أحد مريدي سيد قطب - سابقاً - وهو علي العشماوي انه كان في منزل سيد قطب سنة 1965 هو وبعض (إخوانه) يتباحثون في أمور (التنظيم)- الذين حوكموا بسببه بعد ذلك- وكان اليوم (جمعة) وكانت الجلسة ضاغطة، وجاء ميعاد الصلاة، فقال علي عشماوي (دعنا نقوم ونصلي، وكانت المفاجأة ان علمت- ولأول مرة- انه لا يصلي الجمعة). وينقل عشماوي عن شيخه سيد قطب انه يري- فقهياً- ان صلاة الجمعة تسقط إذا سقطت الخلافة وانه لا جمعة إلا بخلافة، وكان هذا الرأي غريباً علي، ولكني قبلته لأنه فيما أحسب أعلم مني»! وهكذا فإن سيد قطب حتي الأيام الأخيرة من حياته، ورغم كل ما كتبه في الدين وانغماسه الكامل في نشاط الإخوان- لم يكن لأسباب فقهية من وجهة نظره البعيدة تماماً عن الدين - يؤدي صلاة الجمعة!.
- ويعلق علي كل ذلك الكاتب الصحفي عادل حمودة في كتابه (سيد قطب من القرية إلي المشنقة) ص15 «أن اتباع سيد قطب نسوا أيام كان يكتب عن المرأة والعشق وموسيقي الجاز، ويدعو أن تكون مصر مستعمرات للعراة، وهم يتمنون أن يفقد من ذاكرة التاريخ ذلك الجزء من أيامه كأن لم يكن، لتبدأ قصة حياته في لحظة الهداية والعقيدة، وبداية الطريق إلي الاستشهاد». وتبقي عبارة أخري لعادل حمودة في هذا الصدد يقول فيها «ص7» من نفس المصدر: «لقد كان لسيد قطب أكثر من وجه وأكثر من لون، وأكثر من لقب.. فهو معلم وشاعر ومفكر ومفسر وملحد ومسلم ومتطرف، ومصلح ومبدع، ومجاهد ومجتهد وشهيد، فتحولاته حادة وتغيراته مذهلة وصورته لم تحبس نفسها في إطار ثابت».
بعثته الغامضة إلي أمريكا
- فوجئت الأوساط الثقافية في سنة 1948 بسفر سيد قطب إلي الولايات المتحدة في بعثة تعليمية تحت اسم «مهمة ميدانية» للاطلاع علي المناهج وأصول التربية هناك، ولم تكن البعثة مرتبطة بمدة معينة كما هي عادة البعثات، ولم يكن سيد قطب مرسلاً إلي جامعة بعينها كما جري العرف أيضاً، ولم تكن من أجل الحصول علي درجة علمية، ولهذه الأسباب ولغيرها نظر المتابعون والباحثون إلي تلك البعثة بارتياب شديد وصل إلي حد الاتهام. وكان منبع الارتياب أن البعثة جاءت فجأة وشخصية، فلم يعلن عنها ليتقدم لها من يري نفسه كفئاً لها، كما ان المبتعث سيد قطب تجاوز السن التي تشترط إدارة البعثات توفرها كثير فقد سافر وسنه 42 سنة، وانه نقل عند تخصيصها له مراقباً مساعداً بمكتب الوزير. ويتساءل د.طاهر مكي الأستاذ بكلية دار العلوم: «من الذي أوحي بالبعثة وفكرتها؟ ودفع سيد قطب إليها؟ وماذا كانت الغاية الحقيقية من ورائها بعيداً عن الظاهر غير المقنع»؟ ويستطرد د.مكي قائلاً: «واضح ان ذهاب سيد قطب إلي الولايات المتحدة كان وليد تخطيط أمريكي خفي بعيداً عن سيد قطب بداهة ولم يعرفه أكيد، فمن الغريب والعصبية المعهدية علي أشدها في تلك الأيام في وزارة المعارف.. ان تخصص بعثة الموظف من دار العلوم وفي مثل هذه السن.. ولم يكن يدري انه كان جزءاً من رهان أمريكي، وفيما بعد اعترف سيد قطب لرفيق في السجن سيد سالم انه وقع تحت اغراء الأوساط الأمريكية بكل الوسائل، ولكنه لم يسقط في شباك أي منها، لكنه علي أية حال عاد من أمريكا ساخطاً عليها، معادياً لها». وقد تأثر د.حافظ دياب بتساؤلات د.مكي والاتهام الذي انتهي إليه وأخذ به في كتابه عن سيد قطب «الخطابة والأيديولوجية عند سيد قطب». أما الناقد والكاتب أحمد عباس صالح فقد ابتعد في انتقاده لهذه البعثة عن المعايير البيروقراطية والمدرسية في اختيار سيد قطب لهذه البعثة، واستند إلي معايير وخطاب اليسار في الستينيات»، فيقول: «سيد قطب لفت أنظار الاستعمار منذ وقت مبكر بكتاباته المناوئة للاشتراكية بدعوي ان الاسلام والاشتراكية متناقضان، فدعي إلي الولايات المتحدة وأمضي أكثر من عام، عاد بعدها لينشر كتاباً مليئاً بالمغالطات ضد العدل الاجتماعي وضد الفكرة الاشتراكية تحت ستار الدعوة الإسلامية».
- ويشارك د.حلمي النمنم في هذه التساؤلات قائلاً في كتابه المشار إليه آنفاً ص90 «كان سيد قطب منذ سنة 1946 يعلن كراهيته للغرب كله، واحتقاره لأمريكا واحتقاره للمصريين الذين لا يشاركونه هذه المشاعر.. فلماذا إذن قبل البعثة، ولم يترك الفرصة لغيره، إن الرحلة لم تفده ولم تفد المجتمع، وبالتأكيد فإنه حصل علي فرصة انسان آخر كان يستحقها أكثر منه».
- أما عادل حمودة فيقول وهو يوشك أن يوجه اتهاماً «ان أمر هذه الزيارة مثير للحيرة والقلق، ويرسم المصريون علامات الاستفهام والتعجب، فقد جاءت في وقت كان يهاجم فيه النظام الملكي بمقالات نارية. ثم لماذا أمريكا بالذات في تلك الفترة وقد كانت بريطانيا أولي وأقرب دوماً بالنسبة لمن يريدون دراسة المناهج التربوية الغربية».
- ويثير ذات الغبار المتسائل الأستاذ علي الدالي فيقول «يري البعض ان سفر قطب إلي أمريكا كان أمراً مثيراً للدهشة، كما عبر صديقه يحيي حقي عن دهشة أكبر لانضمام قطب إلي الإخوان بعد عودته من أمريكا». كما ان الأمر الغريب هو ان سيد قطب ما أن عاد من بعثته إلي أمريكا حتي قدم استقالته من وزارة المعارف!.
- أما السؤال الذي يخص سيد قطب ويفرض نفسه عليه فهو: لماذا وافق علي هذه البعثة من الأساس وقام بها، خاصة انه كان يعمل في ديوان الوزارة، مما يؤكد انه كان يعلم بها منذ المراحل الأولي لإقرارها، ويعلم أيضاً ان بعثته هذه كانت ممولة من مشروع «النقطة الرابعة» الذي تبناه الرئيس الأمريكي ترومان بعد الحرب العالمية الثانية. ولقد كانت كل البعثات إلي الولايات المتحدة التي لا يحصل أصحابها علي الماجستير والدكتوراه ممولة من هذا المشروع. كما ان البعثة كانت كما قيل بعد هذا أنها كانت بعثة فريدة من نوعها، فلم يكن مقرراً لها أية دراسة محددة أو حتي جامعة محددة، بل هي بعثة حرة فقد ترك له حق التجول في كل أمريكا، والإقامة حيث يشاء، والالتقاء بمن يشاء، وقد بقي في أمريكا قرابة ثلاث سنوات، حيث عاد في صيف عام 1951.
- ذهب سيد قطب إلي الولايات المتحدة، وخضعت بعثته المسماة بالحرة- إلي تخطيط أمريكي دقيق من جانب الأجهزة المخابراتية هناك، حيث أجريت له ترتيبات لزيارة المحافل الماسونية ومراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ومراكز صنع القرار السياسي في أمريكا.. مثل مجلس الكونجرس ووزارة الخارجية والبنتاجون والبيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووكالة المخابرات الأمريكية، والكنائس الكبري والنوادي ومراكز الاعلام والاتصال من صحافة واذاعة وسينما وتليفزيون، والجامعات ومراكز الأبحاث، وجماعات اللوبي المؤثرة في صنع القرار وأبرزها اللوبي اليهودي واللوبي الأسود، وغيرها من جماعات الضغط، فضلاً عن المؤسسات الاقتصادية، ومقار الأحزاب السياسية «الديمقراطي والجمهوري» كما اطلع سيد قطب علي نظريات القرار السياسي الأمريكي ونماذج صناعته وفن العملية السياسية وأدوارها ودور المؤسسات الدستورية فيها.. إلخ وقد استمرت بعثة سيد قطب عامين أمضي العام الأول في تعلم اللغة الانجليزية.
- ولقد عاش سيد قطب حياته في أمريكا طولا وعرضا، وانغمس في الحياة الأمريكية بكل مساوئها وموبقاتها، وعن ذلك يحكي في مقال له بمجلة الرسالة عام 1951 تحت عنوان «ليلة حمراء» قال فيه: كانت ليلة في إحدي الكنائس ببلدة جريلي بولاية كولورادو، فقد كنت عضوا في ناديها كما كنت عضوا في عدة نواد كنسية في كل جهة عشت فيها، وبعد أن انتهت الخدمة الدينية في الكنيسة، واشترك في الترتيل فتية وفتيات من الأعضاء، وأدي الآخرون الصلاة، دلفنا من باب جانبي الي ساحات الرقص الملاصقة لقاعة الصلاة يصل بينهما باب، وصعد «الاب» الي مكتبه، وأخذ كل فتي بيد فتاة. وكانت ساحة الرقص مضاءة بالأنوار الحمراء والصفراء والزرقاء، وبقليل من المصابيح سالت الساحة بالأقدام والسيقان القاتنة والتقت الأذرع بالخصور والتقت الشفاه والصدور.. وكان الجو كله غراماً، وحينما هبط «الأب» من مكتبه وألقي نظرة فاحصة علي المكان ومن في المكان، وشجع الجالسين والجالسات ممن لم يشتركوا في الحلبة علي أن ينهضوا فيشاركوا وكأنما لحظ أن المصابيح البيضاء تفسد ذلك الجو «الرومانتيكي» الحالم، فراح في رشاقة الأمريكاني وخفته يطفئها واحدا واحدا، وهو يتحاشي أن يعطل حركة الرقص، أو يصدم زوجا من الراقصين في الساحة، وبدل المكان بالفعل أكثر «رومانتيكية» وغراماً، ثم تقدم إلي «الجراموفون» ليختار أغنية تناسب ذلك الجو، وتشجع القاعدين والقاعدات علي المشاركة فيه.. واختار أغنية أمريكية مشهورة اسمها but baby its cold outside وهي تتضمن حوارا بين فتي وفتاة عائدين من سهرتهما وقد احتجزها الفتي في داره، وهي تدعوه أن يطلق سراحها لتعود إلي دارها فقد أمسي الوقت وأمها تنتظرها.. وكلما تذرعت اليه بحجة أجابها بتلك الأغنية» ولكنها يا صغيرتي باردة بالخارج». «الشرق الأوسط «4/1/2012» وبعقيدة الكاتب السعودي مشعل السديري علي هذا المقال يقول: « ولكن سيد قطب بعد منتصف الخمسينيات انقلب «180 درجة»، والغريب أنه تأثر بالمفكر الهندي «أبو الاعلي المودودي» الذي لا يحسن حتي التحدث بالعربية، وفي كتابه «معالم في الطريق» انقلب الي وحش ظلامي كاسر يكفر المجتمعات برمتها وكل الأفكار والأعمال والأسماء الارهابية في العقود الأخيرة كلها خرجت من تحت عباءته أمثال ابن لادن والظواهري والزرقاوي والمقدسي والعولقي وقد انطبق عليه المثل الشعبي القائل: «يا سراجين ياظلما»!!.
ـ ويؤكد سيد قطب حقيقة ما سطره في مقاله السابق في مقال آخر بالرسالة نشر في 19 نوفمبر 1951 يقول فيه: «يبدو الأمريكي بدائياً في نظره إلي الحياة.. تلك البدائية التي تذكر بعهود الغابات والكهوف» ويضيف في نفس المقال «إذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة في العالم المسيحي كله فإنها في أمريكا لكل شيء إلا العبادة، وانه ليصعب عليك أن تفرق بينها وبين أي مكان آخر، معبد للهو والتسلية». وفي مقال ثان بالرسالة في 13 ديسمبر 1951 يقول سيد قطب!! «الأمريكي بدائي في ذوقه الفني، سواء في ذلك تذوقه للفن وأعماله الفنية. لم ألمح خلال هذه الفترة الطويلة من الزمان، ولا خلال تلك المساحة الشاسعة من المكان الا في مرات نادرة وجها إنسانياً يعبر عن معني الانسان أو نظرة تطل منها معاني الانسانية ولكنني وجدت القطيع في كل مكان، القطيع الهائج الهائم، لا يعرف له وجهة غير اللذة والمال، لذة الجسد الغليظة التي ترتوي حتي تهمد، وتهدر ريثما تستيقظ في سعار، ورغبة المال التي تنفق الحياة كلها خيرها وشرها، ليلها ونهارها في سبيل الدولار». ثم يعترف قائلاً: «إن أمريكا تمسخ وتشوه الذين يدرسون فيها والذين يتخرجون في جامعاتها فيعودون إلي بلادهم بدون شخصية أو كيان، وبدون علم أو أدب أو خلق..» ويبدو أن قطب كان صادقا مع نفسه في ذلك، حيث حسمت بعثته الي أمريكا أموراً عديدة داخل سيد قطب، أهمها الانقطاع كليا عن النقد والدراسات النقدية، والابتعاد عن دنيا الأدب والأدباء، وقد أعلن ذلك من هناك في رسالة بعث بها الي أنور المعداوي في أوائل مارس 1950 قال فيها: :تنتظر عودتي لأخذ مكاني في ميدان النقد الأدبي؟.. أخشي أن أقول لك إن هذا لن يكون وأنه من الأولي لك ان تعتمد علي نفسك إلي أن ينبثق ناقد جديد!! إنني سأخصص ما بقي من حياتي وجهدي لبرنامج اجتماعي كامل يستغرق اعمار الكثيرين» د. حلمي النمنم مصدر سابق ص 89، وبالفعل كان هذا البرنامج هو تخريب المجتمعات الإسلامية باسم الاسلام.
خلاصة القول:
ـ حقيقة الأمر أن سيد قطب ذهب إلي أمريكا في مهمة اختارته لها الأجهزة والمؤسسات المخابراتية والسياسية التي تؤسس هناك للحفاظ علي المصالح الأمريكية وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط علي المدي البعيد، وأبرزها فرض الهيمنة الأمريكية علي بلدان الشرق الأوسط، واستغلال مواقعها وثرواتها في الحرب الكونية الأمريكية ضد الشيوعية، والاتحاد السوفيتي آنذاك وتمثله روسيا اليوم وهي حرب ستكون ممتدة عبر القرن الحادي والعشرين الحالي ولكي يتحقق هذا الهدف كان علي أجهزة التخطيط الأمريكية أن تعمل علي إضعاف دول المنطقة وجيوشها وذلك بتقسيمها عرقيا وطائفياً ومذهبيا وأسلوبها لتحقيق ذلك هو اثارة الفتن الطائفية والعرقية والصراعات السياسية المسلحة، مما يؤدي إلي ما عبرت عنه كونداليزا رايس وزيرة الخارجية السابقة عام 2006 بـ «الفوضي الخلاقة».أما وسائل تحقيق ذلك فهم جماعات وأحزاب التيار الاسلامي وفي مقدمتهم جماعة الاخوان المسلمين، وهو ما يفسر التنسيق الكامل والعريض والعميق بين الادارة الأمريكية ومكتب ارشاد الجماعة في مصر والتنظيم الدولي للاخوان طوال السنوات الماضية ولتحقيق العنف والفوضي والصدامات الدموية كان يتبني ايجاد البواعث والمبررات العقائدية لذلك، وغرسها في عقول عامة الناس شبابا وشيوخا ونساء وأطفالاً، وتلك كانت مهمة سيد قطب التي تم تجنيده لها من قبل الولايات المتحدة، ونجح فيها بامتياز عندما غرس في كتبه أفكار تجهيل المجتمع المصري وتكفير أبنائه، ثم استحلال حرماتهم، وايكال هذه المهمة إلي جماعة الاخوان لتقويض أركان هذا المجتمع وازالة نظامه الحاكم بدعوي اقامة المجتمع الاسلامي وتطبيق الشريعة الاسلامية.
ـ لذلك فإن الرسالة التي تحملها هذه المقالة موجهة في الأساس إلي شباب جماعة الاخوان الذين يتأسون بسيد قطب ويعتقدون بما جاء في كتبه ويعتقدون باطلا انه جدد في الاسلام وأرسي له قواعد جديدة بل يصلون به إلي مرتبة التقديس، في حين أن كل ذلك مخالف للحقيقة التي تنطق بها كتابات سيد قطب وسلوكياته وأنه بما كتبه وشارك فيه من مجون وإباحية علي النحو الذي وصف به الليلة الحمراء التي قضاها في الكنيسة الأمريكية ليس محلا للاقتداء ولا التأسي، كما أنه بإساءته الي رسل الله الكرام في كتابه «التصوير الفني في القرآن» مطعون في إيمانه لأن الايمان هو الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، وبالتالي فإن كل من يسيء إلي أي من رسل الله علي النحو الذي كتبه سيد قطب في كتابه المشار اليه آنفاً، فهو انسان مطعون في إيمانه، ومن ثم لا ينبغي التأسي ولا الاقتداء به، ولا في كل ما يكتبه ويقوله لاسيما بعد أن أثبتت الأحداث الارهابية التي تعرضت لها المجتمعات الاسلامية خلال القرنين الماضي والحالي، كانت بسبب الفتنة الدامية التي أشعلتها كتب سيد قطب التي كفر بها المجتمعات الاسلامية وأهلها ودعا الي تقويضها.
بقلم: لواء أ. ح. متقاعد: حسام سويلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق