هل تصدق، ونحن نعيش فى عصر تتسابق فيه الأمم للحاق بالكم الهائل من التطور التكنولوجى الذى يشهده العالم بشكل يومى، أنه ما زال لدينا قرى فى صعيد مصر يعيش أهلها وسط الجبال والكهوف، بلا شهادات ميلاد، أو وفاة، أو بطاقات شخصية، أو أية أوراق تثبت شخصيتهم، ويحيون ويموتون دون أن تعرف الحكومة عنهم شيئا، هذا للأسف هو حال آلاف المواطنين بمحافظة أسيوط، الذين ذهبت «اليوم السابع» إليهم، فى قرى «عرب القداديح»، التابعة لمجلس مدينة مركز أبنوب، و«دير القصير»، التابعة لمجلس مدينة القوصية، ومنطقة الجبل بقرية «عرب العطيات البحرية» بمركز أبنوب، وقرية «دير الجبراوى» بمركز أبنوب».
حياة بالفعل لا يتصورها بشر، المواطنون فى تلك القرى يعيشون ظروفا لا يتوافر فيها الحد الأدنى من الإمكانيات التى يمكن أن يعيش عليها آدميون، فلا سكن، ولا مياه، ولا كهرباء، وبشر لا علاقة لهم بما يدور فى الخارج منذ ميلادهم وحتى وفاتهم، لدرجة أنهم لا علاقة ولا صلة لهم بالحكومة، أو مؤسساتها، ولا يعرفون حتى عنها شيئا، لأنهم ببساطة لا يستخرجون شهادات ميلاد أو وفاة، أو بطاقات شخصية، أو بطاقات تموين، ولا يتابعون الأحداث الجارية فى الداخل والخارج، سواء سياسة أو اقتصاد أو رياضة، ولا يمتلكون وسائل اتصالات، أو حتى تليفزيونات أو دش.
الحياة بالنسبة لهم لا تعنى أكثر من الاستيقاظ صباحا لممارسة أعمالهم اليومية فى زراعة الأرض، التى قاموا باستصلاحها بعد وضع أيدهم عليها، التى تعتبر مصدر الرزق الوحيد لهم، ورغم ذلك لم تترك لهم الدولة المجال لزراعتها بسهولة، بل أجبروا على دفع غرامات سنوية ضعف ما يقومون بحصاده، وجزء آخر رفضت الدولة منحهم إياه لاستصلاحها وزراعتها، على الرغم من أن المناطق جبلية تحتاج إلى جهد كبير، والغريب فى الأمر أن أهالى تلك القرى لا يهتمون بتعليم أبنائهم، ولا يسعون إلى استخراج أوراق ثبوتية لهم، وهم أكثر المجازفين لخوض تجربة الهجرة غير الشرعية، على الرغم من ثقافتهم المحدودة، ومنهم من أسعده الحظ ووفق بالفعل، ومنهم من انقطعت أخباره، وأصبح فى تعداد المفقودين.
كما أن عاداتهم وتقاليدهم مختلفة إلى حد ما عن عادات وتقاليد المراكز والمدن بأسيوط، خاصة فى طقوس الزواج والأحزان، كما أنهم لا يلجأون إلى المستشفيات التى تعنى بالنسبة لهم كارثة، فلا يلجأون إليها إلا فى حالة عجزهم عن العلاج بالطرق التقليدية المتبعة لديهم، ولذلك فإن أغلبهم يلجأ فقط فى حالة وجود مرض قاسٍ لا يستطيع علاجه بالوسائل الطبية التقليدية، وفى الغالب يصلون بالمريض إلى المستشفى بعد أن يكون قد فارق الحياة.
ويعتبر الجمل والحمار والحصان هى وسائل التنقل الوحيدة لسكان الجبل، حيث يتنقلون بها بين داخل وخارج القرى، ويعتمدون عليها فى نقل وحمل أمتعتهم، إلى جانب سيارات ربع النقل، التى تستخدم غالبا لنقل الحيوانات، كما يمثل رعى الأغنام واحدة من المهن الأساسية التى يعتمد عليها سكان تلك المناطق، وقلما تجد منزلا لا يعتمد بشكل كلى على الرعى والحصول على الأصواف والألبان، أو بيعها كنوع من الاستثمار.
ونظرا لبعد تلك القرى، وسهولة الاختباء بها، نظرا لوعورتها، وتلاصق المنازل فيها، فإن كثيرا من الخارجين على القانون والهاربين من أحكام قضائية، يستغلون حاجة الأهالى فيها والفقر المدقع الذى يعيشون فيه، ويستخدمونها كأوكار تأويهم، واستغلالها فى بعض الأحيان لتخزين الأسلحة والزخائر الخاصة بها.
دير القصير
ففى قرية دير القصير، التابعة لمركز القوصية بأسيوط، تقع القرية فى الجهة الشرقية للنيل، ويبلغ عدد سكانها 13583نسمة، بمتوسط عدد 5 أفراد فى الأسرة الواحدة، وبمعدل 2814 أسرة، طبقا للتعداد السكانى بجهاز التعبئة والإحصاء فى 2015، حيث تعيش تلك الأسر فى حجرات صغيرة أسفل الجبال، فى شكل كهوف ضيقة، وقد أدت الخصومات والثأر وانتشار الأسلحة إلى تحويل القرية إلى مرتع للمطاريد والخارجين عن القانون، الذين استغلوا مساكن الأهالى والإقامة بداخلها هربا من تنفيذ الأحكام، وهمهم الأول هو تجميع السلاح للأخذ بالثأر.
يقول إبراهيم محمود، أحد أهالى القرية لـ«اليوم السابع»: إن أهالى القرية لا يملكون إلا قوت يومهم، الذى يوفرونه بالعمل فى الزراعة أو الاستثمار فى بعض الأعمال اليدوية التى يقمن بها ربات البيوت كعمل المقارص الورقية وبيعها فى سوق المركز، مشيرا أن هناك عقبات معيشية توارثها سكان هذه القرية خلال السنوات الماضية، منها أن القرية تبعد عن مركز القوصية بأكثر من 20 كيلومترا، وليس هناك وسيلة مواصلات واحدة، مما يجبر الأهالى على السير على الأقدام وسط الجبال لمسافة كبيرة جدا، خاصة أن الأرض غير مستوية، ثم عبور النهر عن طريق المراكب والقوارب الصغيرة التى يستغل أصحابها الظروف، ويفرضون أجرة ضخمة على الأهالى مقابل نقلهم، ثم السير لمسافات كبيرة بعد العبور للوصول إلى المواصلات التى تنقلهم إلى داخل المركز، فى رحلة تستغرق من القرية إلى المركز نحو 4 ساعات، ولذلك لا يلجأ الأهالى إلى النزول إلى المركز إلا فى الحالات القصوى.
ويؤكد إبراهيم أن معظم شباب القرية فروا إلى خارج الحدود فى رحلات هجرة غير شرعية، ومنهم من نجا ونجح فى العبور، ومنهم من فقد وانقطعت أخباره.
وتؤكد الحاجة «أم أحمد» 50 سنة، من سكان القرية، أن ولديها سافرا منذ 7 سنوات، ولا تعرف إذا كانا على قيد الحياة أم غرقا، بعد أن انقطعت أخبارهما منذ خرجا من القرية، مشيرة أن ظروف القرية حالت دون تعليم كل أبنائها، فهم لا يرون غير الجبال والكهوف، ولا يسمعون سوى صوت الرصاص من المطاريد وسط الظلام الحالك.
وتشير «أم أحمد» إلى أن معظم أهالى القرية يعيشون بالزراعة، حيث قام بعضهم باستصلاح جزء من الأراضى الجبلية وزراعتها، فورث البعض أراضى استصلحها أجدادهم ويقوم بزراعتها الأبناء، فضلا عن تربية الدواجن والحيوانات المنزلية، مشيرة أن أقرب وحدة صحية تبعد عن القرية مسافة كبيرة، ويستغرق وقت الذهاب إليها 3 ساعات على الأقل.
ويؤكد عبدالكريم إبراهيم من أبناء القرية، أن أصعب الحالات التى يقابلونها، لدغم الثعابين والعقارب السامة لأحد الأطفال، ويحتاج الأمر نقله لأى وحدة صحية، فمع طول المسافة وبعدها، والحاجة إلى التدخل السريع يموت الأطفال، وهو ما يجعلهم يضطرون إلى استخدام الطب البديل، الذى اعتادوا على استخدامه منذ عشرات السنين، مؤكدا أن القرية سقطت من حسابات كل المسؤولين على مر العصور.
يقول عبدالرحيم سلامة، أحد أهالى قرية دير القصير: إن أكثر من 90 ? من السكان لا يعلم شيئا عن السلع المدعومة، والسلع التموينية، لأن معظم السكان غير مسجلين ببطاقات التموين، لأنهم ليس لهم من الأصل شهادات ميلاد، وبالتبعية ليس لهم بطاقات شخصية وعن المواسم والأعياد والزواج والمناسبات، يقول سيد النمر، أحد أهالى القرية: إن الزواج لديهم غير مكلف، حيث يقوم العريس بتوفير شبكة غير مكلفة لا تتعدى دبلة الزواج فقط، وهو مطالب بتوفير أى مكان للمعيشة، سواء بحضن الجبل أو بناء حوائط بالبلوك الأبيض، وسقفها بالجريد، أو الخوص أو المخلفات الزراعية، مشيرا أن المقابر موجودة بجوار القرية، وهى عبارة عن مقابر أرضية شرعية، وأن مراسم العزاء تنتهى بالعزاء على المقابر.
عرب العطيات
لم يختلف الحال بقرية «عرب العطيات»، التابعة لمركز أبنوب كثيرا عن الحال فى «دير القصير»، بل على العكس، تعد قرية عرب العطيات هى أسوأ حالا، حيث الأحوال المعيشية، ومجالات الرزق ضيقة للغاية، ويبلغ تعداد القرية 13941 نسمة، طبقا لتعداد السكان فى 2015، بمتوسط 5 أفراد فى الأسرة الواحدة، أى بمعدل 2770 أسرة، حيث يعمل نصف سكان القرية، ويسكنون تحت الجبل مباشرة، بلا ماء أو كهرباء، أو أقل متطلبات للحياة، فى غرف مبنية بطوب البلوك الأبيض ومسقوفة بجريد النخيل، مفتقدين أقل الحقوق البشرية، وهو حقهم فى حياة بالأراضى الزراعية، ولا يمر شهر على سكان هذه القرية إلا ويفقدون واحدا منهم نتيجة تعرضه للدغ العقارب والثعابين.
منى صاوى إحدى فتيات القرية وإحدى المهتمات بالعمل الخيرى والقائدة النسائية بقرية عرب العطيات البحرية، قالت لـ «اليوم السابع»: إن منطقة الجبل تقع شرق قرية عرب العطيات، وجميع المقيمين بتلك المنطقة يسكنون الجبل والكهوف، أو حجرات مبنية بالبلوك الأبيض، دون أى وسائل أو أدوات منزلية، وما يسعون إليه فقط هو سد رمق الجوع، مؤكدة أن نسبة الأمية بالقرية تبلغ حوالى 50% للرجال وأكثر من 80% للنساء، وأن الأهالى يقومون بزواج البنات فى سن 12 و13 سنة، وبالاتفاق ودون عقد شرعى، ويخرج الأطفال أيضا دون شهادات ميلاد أو أوراق ثبوتية.
وتشير منى الصاوى إلى أن عدم وجود شهادات ميلاد أدى إلى ضياع حقوق الأبناء بالقرية، وتسبب فى عدم حصولهم على حقوقهم التى كفلتها لهم الدولة، كالتعليم، والسلع التموينية، والانتخابات، وحتى الحق فى شهادات الوفاة، مشيرة أن جمعيات أهلية حاولت مؤخرا استخراج شهادات ميلاد للأهالى عن طريق التسنين ثم استخراج بطاقات شخصية لهم.
وتروى الصاوى مأساة أهالى القرية مع مرض العيون حيث تقول: إن أكثر الأوبئة المنتشرة بمنطقة الجبل مرض حساسية والتهابات العيون، لعدم وجود مياه وصابون يستخدمها الأهالى، خاصة أنه لا توجد دورات مياه بحجرات الجبل التى يقطنها، ويقوم الأهالى بقضاء حاجتهم بالجبال، مما ساعد على انتشار الأوبئة والأمراض وزيادة أمراض الحساسية والعيون، مشيرة أن أغلب أهالى القرية يعملون كـ «سريحة» لبيع الترمس وغزل البنات، وغيرها، بمقابل مادى أو بالمقايضة للحصول على الأغذية، مطالبة الدولة بالنظر إلى معاناة الأهالى ومدهم بأقل إمكانيات الحياة من خدمات، لحمايتهم من الحيوانات المفترسة والثعابين والعقارب التى أصبحت تشاركمهم الحياة.
وتستغيث السيدة أم كلثوم سيد حسن، بالرئيس والمسؤولين، لعلاج أبنائها حيث رزقها الله بـ 10 أبناء منهم 6 مصابين بالخرس، ولا يستطيعون الكلام، ونظرا لقلة المال والفقر الشديد الذى تعيش فيه الأسرة لم تستطع الإنفاق عليهم، واكتفت فقط بالنظر إليهم والدعاء لهم.
دير الجبراوى
أما قرية «دير الجبراوى» التابعة لمجلس مدينة أبنوب، فهى أيضا واحدة من القرى الصحراوية ذات الطبيعة الجبلية القاسية، التى يعيش سكانها تحت وفى باطن الجبل، حيث يبلغ عدد سكانها 3876 نسمة، طبقا للتعداد السكانى فى 2015، بمتوسط 5 أفراد فى الأسرة الواحدة، أى بمعدل 770 أسرة، والقرية عبارة عن بعض المنازل الصغيرة المتجاورة والمبنية على أماكن جبلية مرتفعة ومنخفضة بالطوب الأبيض والطين والرمال، ولا توجد بالقرية أى خدمات سوى وحدة صحية مغلقة بسبب رفض عزوف الأطباء والممرضين عن العمل بها، بسبب الظروف القاسية للقرية وعدم وجود وسائل مواصلات آدمية، وانتشار الحيوانات المفترسة، وعلى الرغم من وجود مدرسة ابتدائية وأخرى إعدادية بالقرية، فإن الأهالى لا يعلمون أباءهم، ومن يعلن أبناءه يكتفى بالمرحلة الإعدادية، نظرا لبعد المدرسة الثانوية عن القرية بمساف 15 كيلومترا.
كما تعانى القرية من عدم وجود دورات مياه، حيث تمنع الدولة السكان من حفر دورات مياه أسفل أو بجوار منازلهم، بدعوى أن القرية تسبح فوق بحر من الأثار، وأن أى حفر لعمل دورات مياه سيؤثر عليها ويدمرها، وأشار أبانوب عادل، أحد أهالى القرية بإنقاذ سكانها من هذه المأساة، حيث يقوم الجميع بقضاء حاجاتهم فى الجبال، مما يعرضهم للحيوانات المفترسة، مطالبا الدولة بعمل مسح للتأكد من وجود أثار من عدمه، وتوفير مساكن بديلة وأكثر آدمية لهؤلاء السكان، مشيرا أن انتشار الأوبئة أدى إلى انتشار الكثير من الأمراض والأوبئة، وعلى رأسها ضعف القدرة على الإبصار الذى يتطور تدريجيا إلى العمى.
عرب القداديح
وعلى بعد كيلو مترات، ليست بالبعيدة عن مركز أبنوب، يقطن سكان قرية عرب القداديح، عدد سكان القرية وصل إلى 15452 نسمة، طبقا للتعداد السكانى فى 2015، فهى فى زيادة سكانية هائلة، إلى جانب عدم وجود مصادر رزق لهم، حيث تتسم القرية بطبيعة صحراوية وأرضٍ وعرة قاحلة، لدرجة أن قرى المركز بأكملها اتخذت أجزاء كبيرة من هذه الأرض مكانا لدفن موتاهم، ويحاول الأهالى استزراع الأراضى التى من الصعب أن تصدق أنه من الممكن أن تخرج منها نبت ولا ثمرة.
يقول على عرندس، أحد الأهالى، الذى قام وأولاده باستصلاح أجزاء من هذه الأراضى الصحراوية، أن هذه الأرض التى تكسوها الخضرة الآن من كل جانب لم تكن على هذا الحال، بل كانت أرض صحراوية لا زرع فيها ولا ماء، مضيفا أنه اجتهد فيها بمساعدة أولاده، وقاموا برفع الأحجار منها وتهذيبها وإعدادها للزراعة منذ 13 عاما، وقاموا بالحفر لمسافة 232 مترا، ليخرجوا إليها مياها جوفية، وقاموا بزراعة القمح والبصل وبنجر السكر، حيث يصل إنتاج الفدان من القمح إلى أكثر من 25 أردب للفدان الواحد، وهو أفضل من الأرض الزرقا، وبرغم ذلك المجهود، فوجئوا بأن الدولة تنذرهم بضم الأرض إلى أملاك الدولة، واتهمتهم بالاستيلاء عليها بوضع اليد ودون وجه حق، وأصدرت قرارا بتخصيص هذه الأرض كغابة شجرية لتصب فى مياه الصرف الصحى من المنطقة الصناعية، على الرغم من أن هذه الأرض مزروعة، وحصادها يعد مصدر رزق لمئات الأشخاص وعشرات الأسر بهذه القرية، مطالبا الرئيس بالتدخل للحفاظ على تلك الأرض من بطش المسؤولين، قائلا: «إننا مسجونون فى هذه الأرض، ونقضى عقوبة وسط الصحراء، ولكن ننتج لبلادنا كل أنواع المحاصيل والثمار، ونأخذ من قوت يومنا حتى نصرف على هذه الأرض». ويقول أحمد عبدالحميد، أحد الأهالى: إن القرية يوجد بها مقابر مركز أبنوب بالكامل، وأن الأهالى يعيشون مع الموتى طوال العام، فضلا عن أن هذه القرية من القرى الطاردة لشبابها، حيث يفضلون السفر إلى محافظات الوجه البحرى، والعمل هناك بدلا من البقاء فى تلك الظروف القاسية.
وقال على مكرم أحد أهالى القرية: إن من أكبر المشكلات التى تواجه القرية، مشكلة الحرائق المتعددة فلا يمر عام إلا وتتعرض القرية لأكثر من 5 إلى 6 حرائق غير عادية، يطول الواحد منه أكثر من 20 مسكنا بسبب الفقر، واعتماد الأهالى على السكن فى مساكن بدائية مسقوفة بالجريد والمخلفات الزراعية.
ضحا صالح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق