داخل مدرسة مركز شباب الحمام بأبنوب، لم تبد أمل عاطف، ذات الأربعة عشر عاما، مختلفة عن باقى الطالبات اللاتى فاتهن قطار التعليم، فحاولن اللحاق به عبر مدرسة الفصل الواحد، إلا أن عيونها اللامعة التى تعكس قدرا كبيرا من الحماس والإصرار كانت تحكى جانبا من حكايتها، حيث ظل والدها يعدها بالالتحاق بالمدرسة عاما بعد عام حتى تجاوزت السن لتكتشف أنها لن تستطيع الذهاب للمدرسة بسبب ضيق ذات اليد وعدم قدرة والدها على تحمل مصاريف الكتب والدراسة.
فى طريقها لشراء احتياجات المنزل، اكتشفت أمل مدرسة الفصل الواحد المخصصة للأطفال المتسربين من التعليم، وسألت المعلمة عن إمكانية أن تأتى إلى الفصل لتتعلم القراءة والكتابة، ولمحت موافقة والدها الذى لن يكلفه تعليمها أى مصاريف بل على العكس سيساعده انتظامها فى الدراسة على الحصول على حصة التغذية المكونة من زيت ودقيق وأرز يخصصها برنامج الغذاء العالمى شهريا لبعض الأسر لإعادة أطفالهم المتسربين من التعليم.
وواجهت أمل الكثير من الشائعات التى حاولت إثناءها عن الذهاب إلى المدرسة، فأحينا كان يشيع بين الجيران أن تلك المدرسة مجرد حيلة لخطف الأطفال، ونجحت فى تجاوز كل تلك الشائعات.
«أنا مش بغيب من المدرسة إلا لما تكون أمى بتغسل والنهارده كنت حاغيب لكن أمى قالتلى روحى عشان لما الدقيق ييجى تاخديه»، قالت أمل مؤكدة أن والدتها تحرص على عدم تغيبها عن المدرسة حيث إن تجاوز غيابها نسبة الـ80 % يتسبب فى خسارة عدة كيلو جرامات من الدقيق والأرز، بالإضافة إلى الزيت، وألمحت إلى أنها لولا هذا التموين الشهرى لمنعها والداها من التعليم، خاصة أنهما لم ينالا أى قسط منه.
ولا يتوقف والداها عن
محاولات إحباطها والتأكيد من آن إلى آخر على أن الظروف لن تسمح لها باستكمال دراستها عندما تكبر، وأن عليها البحث عن فرصة عمل حتى تتمكن من تجهيز نفسها، إلا أنها مازالت تقاوم وتخبرهم أنها تفضل استكمال تعليمها على الزواج.
«Welcome to Abdelwahab School، we are happy to see you، Wish you a happy day»
بتلك الجمل الترحيبية يستقبل طلاب مدرسة عبدالوهاب المجتمعية أى زائر لهم ليعكسوا بها كم التحول الذى طرأ عليهم منذ التحاقهم بالمدرسة منذ عامين فقط.. رشا واحدة من أكثر الطلاب تميزا فى هذه المدرسة، كما كانت الأوفر حظا بين أخواتها السبعة الذين لم يتلقوا أى قدر من التعليم باستثناء واحد فقط التحق بالمدرسة الابتدائية وتركها ليساعد والده فى مصاريف أخواته، فوجئت رشا بالتغير الذى طرأ على والدتها فبعد أن كانت تجبرها على العمل فى جمع القطن مقابل 10 جنيهات يوميا أصبحت تشجعها على الالتحاق بالمدرسة، إلا أنها لم تنتظر طويلا قبل أن تصدمها بجملة: «لازم تروحى المدرسة عشان إخواتك ياكلوا».
تقول المعلمة سحر الراوى إنه على الرغم من أن نسبة تقارب الـ40% من الفتيات لا تأتى إلى المدرسة إلا من أجل الحصول على حصة التغذية الشهرية المكونة من زيت وأرز ودقيق لأن الغالبية العظمى منهن ينتمين إلى أسر شديدة الفقر ويحرصن على عدم الغياب لأن غيابهن مدة تتجاوز ثلاثة أيام يعرضهن لخسارة تلك التغذية المجانية، إلا أنها تلاحظ أن نسبة كبيرة من الطالبات لديهن قابلية وقدرة على الاستيعاب والتعلم تفوق طلاب المدارس الحكومية لأنهن أكبر سنا ولديهن حافز داخلى بسبب حرمانهن من التعليم، وهو ما يدفع بعض الفتيات للسير لمسافة 6 كيلو مترات يوميا للذهاب إلى المدرسة.
أما مدرسة الحرجات بقرية عرب العطيات، إحدى مدارس المجتمع التى تتسع لأكثر من 50 طالبا، فكان التعليم سببا فى إعفاء أحمد من المجهود المضنى الذى كان يبذله مع والده فى الحقل، يقول أحمد الذى لم يجاوز العاشرة من عمره: «كنت باشتغل فى الأرض لحد ما قلبى يوجعنى، بازرع قمح وذرة وبرسيم وأرش كيماوى وكنت باخد 30 جنيه فى اليوم وأديها لأبويا»، مشيرا إلى أنه توقف عن العمل منذ التحاقه بمدرسة الفصل الواحد.
«لو مفيش بسكويت ورز ودقيق، أبويا مش حيخلينى أروح المدرسة وحيرجعنى اشتغل تانى»، مؤكدا أنه تعلم فى المدرسة أن الشغل حرام للأطفال.
أما زميله محمد كامل ذو التسع سنوات، فلم يذهب إلى المدرسة من قبل حيث كان يعمل مع والده فى الزراعة مقابل جنيه واحد يوميا ينفقه على شراء القصب أو أى نوع من الحلوى.
يقول كامل: «التعليم حلو دلوقتى بيخلينى أعرف أقرا وأكتب ولما أكبر ممكن أشتغل ضابط وكمان باخد البسكويت اللى بافطر بيه ده غير الرز والدقيق اللى أمى بتفرح قوى لما باخدهم من المدرسة».
من جانبه، أكد حاتم قطب، مدير مكتب هيئة «تير دى زوم» السويسرية فى الصعيد، أن أغلب الأطفال فى أسيوط يعانون من سوء التغذية والتقزم، مشيرا إلى التغذية المدرسية ممثلة فى البسكويت الذى توزعه وزارة التربية والتعليم على طلاب المدارس هى فى حقيقتها طريقة لجذب الطفل إلى المدرسة والتغلب على سوء التغذية وزيادة قدرته على الاستيعاب والتركيز، وأوضح أن هناك ما يزيد على 22 ألف طفل متسرب من التعليم بسبب سوء العملية التعليمية والحالة الاقتصادية المتردية التى تجعل الأسر تدفع بأطفالها إلى العمل فى الزراعة أو أى أعمال أخرى لجلب الدخل.
المشروع الذى تطبقه «تير دى زوم» فى 3 مراكز فى أسيوط يستهدف الوصول إلى 6630 طالبا فى المدارس الحكومية ومدارس المجتمع كما يستهدف إنشاء 650 مشروعا صغيرا للأمهات، وذلك بالتعاون مع مشروع «النساء يمضين قدما» التابع لمنظمة العمل الدولية بهدف تمكين السيدات ورفع وعيهن بأهمية التعليم وتخفيف الأعباء الاقتصادية عن الأسرة.
كريمة إحدى الأمهات التى ساعدتها مؤسسة تير دى زوم على إقامة مشروع صغير يساعدها على التكفل بالمصاريف الدراسية لأبنائها، حيث توقف ابنها عن العمل فى الحقول منذ بداية المشروع وبدأ ينتظم فى دراسته تقول كريمة: «ابنى كان بيسرح فى الغيطان عشان يجيب مصروفه أو يكسى نفسه لكن دلوقتى أنا باديله مصروف وباجيبله أدوات المدرسة» بينما لم تتمكن ابنتها من إكمال تعليمها لأن المدرسة تبعد عن البيت بـ4 كيلو مترات وتستعد لتزويجها بمجرد أن تكمل عامها الثالث عشر.
وتؤكد كريمة أن حصة الأرز والدقيق والزيت التى تحصل عليها شهريا من برنامج الغذاء العالمى تساعدها فى تدبير الكثير من الاحتياجات اليومية للمنزل قائلة: «لو مفيش دقيق ورز مش حاقدر أوديه المدرسة وحاضطر أخليه يسرح عشان ياخد 15 جنيه فى اليوم»، مؤكدة أن الأولاد يذهبون إلى المدرسة فقط من أجل تناول البسكويت.
يمنى مختار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق