المسافة من قرية سلام بأسيوط إلى القاهرة، هي ذاتها المسافة بين فصل الصيف الذي شهد مولده في أغسطس 1923، وأواخر الشتاء التي أذنت برحيله في مارس 2012، وفي تفاصيل الخطى تكمن عبقرية الطموح الذي قفز على توقعات صاحبه.
في منزل ريفي لصاحبه "جيد روفائيل"، وضعت "بلسم جاد" ثالث أبنائها في ليلة صيفية في الثالث من أغسطس عام 1923، تسوق الأخ الأصغر لـ"شقيقيه روفائيل وشوقي" أقدار التفرد منذ نعومة أظفاره، ويستسلم نظير في مهده لـ"أحضان" أمه المسلمة الحاجة "صابرة" تلك المرأة التي أرضعته مع اللبن عبارته الخالدة "إن مصر ليست وطنا نعيش فيه, إنما وطن يعيش فينا".
غير تقليدية كانت طفولة "نظير جيد" الذي تجول في عدة محافظات وفقا لـ"طبيعة "عمل شقيقه الأكبر "روفائيل" المسئول عن رعايته، والموظف بدمنهور حينئذ قبيل دراسته بالمرحلة الإعدادية، ويستقر المقام بالشقيقين بعد طول سفر خصم من رصيد الأكبر بحكم روتينية عمله، وأضاف لـ"الطفل" إدراكا فوق إدراكه.
شخصية كاريزمية وقدرات فائقة
شبرا كانت نقطة التحول التدريجي في حياة الشاب الذي
التحق بمدرسة الإيمان الثانوية، ساعيا إلى التفوق وقارئا لما تلحظه عيناه من كتب، جوانب الشخصية "الكاريزمية" تدخل طورها الأول عبر فجوة تتسع بينه وبين أقرانه جراء قدرته الفائقة على حفظ مايقرب من 10آلاف بيت من الشعر العربي.
موهبة الشعر لم تمنع الشاب نظير جيد من طرق باب التاريخ، عبر التحاقه بجامعة "فؤاد الأول" القاهرة عام 1942،منحازا للذاكرة على حساب الموهبة، يقول يسري رياض سيدراك صديق البابا ومدير مدارس أون هيلوبوليس"نظير جيد عرفته في أول يوم بالجامعة ،كان نحيف الجسم قصير القامة ،يميل إلى الشعر،وطوال الإجازة كان يقرأ بشغف في كل ما يمت للإسلام السياسي ".
كنت أسأله دائما والحديث لـ"صديقه" "انت بتروح فين بعد الظهر "،فيرد"أنا بروح جمعية مدارس الأحد "وكانت في الطابق الأرضي في فيلا بشارع روض الفرج.
بينما صديقه المقرب فايز عبدالنور يقول عن مرحلة الجامعة "كان نظير جيد حاد الذكاء ،جميعنا كان يسجل مايقوله الأساتذة بينما هو ينصت فقط ،وعندما نشكو له تسرب المعلومات يقول "أنا على العكس"،المعلومات بتدخل دماغي مبتطلعش ،لدرجة أن مخي إتملى معلومات،ومش عارف أوديها فين ".
ويستطرد عبدالنور "كان الأول على قسم التاريخ على مدار أربع سنوات، لدرجة دفعت أستاذ التاريخ الإسلامي إلى الإستعانة به في تصحيح أعمال السنة للطلاب ".
الفكاهة فطرة أصيلة
والفكاهة فطرة أصيلة لدى نظير المتفوق، يقرأها عبدالنور من ذاكرته قائلا "ذات مرة كان لنا زميل وزميلة، وكانت هي دائمة القول "هتجوزك" ،بينما يرد هو "إبعدي عني مش هتجوزك"،حينئذ ارتجل البابا شنود ة شعرا وقال لزميلنا قل لها "شدي شعورك كيف شئت ونعكشي..فسوف أحبك مع طلوع المشمش"..
وعلى صعيد ميله إلى الرهبنة يقول صديق البابا"ذات مرة شكوت من حلاقة ذقني باعتبارها عادة متعبة ،فرد مازحا "يابختك أنا كل مابحلق جانب ينبت قبل حلاقة الآخر"..فأخبرته أنك ستصبح كاهنا أوراهبا ..واعتبرها نبوءة له.
الخروج على البطريرك
تخرج نظير جيد روفائيل بتقدير إمتياز في كلية الآداب قسم التاريخ ، وكان حينئذ يعمل خادما بكنيسة الأنبا انطونيوس بشبرا، وقبيل تخرجه استهوته جماعة الأمة القبطية لمؤسسها إبراهيم هلال ،وقتئذ كان على رأس أهدافها "الإصلاح الكنسي" وكان متحمسا جدا لفكرة الخروج على البطريرك "يوساب" حتى تمكنت الجماعة من القبض عليه وإيداعه الدير ،وألقي القبض على بعض أعضائها ومن بينهم "نظير" ،وكان يحضر إمتحان "الشفوي"في حراسة الشرطة ،ثم يعود للقسم مرة أخرى ..
بعد الجامعة إنضم نظير جيد إلى كلية العسكرية "الضباط الإحتياط"،وشاءت الأقدار ألا يشارك في حرب 1948 ،لكن غيابه عن الجبهة العسكرية ،من مواصلة النضال في مدارس الأحد التي تحولت حينئذ إلى معسكر كبير يجهز للثورة على التعليم الكنسي التقليدي .،تمكن نظير من تأسيس مجلة مدارس الأحد التي عمل بها محررا ثم ترأس تحريرها ،وكان غلاف المجلة وقتئذ قافزا على تقليدية العصر عبر تضمنه صورة للسيد المسيح ومعه الكورباج،بينما إفتتاحيتها تاتي في مقال تحت عنوان "نحن صوت الله الرهيب"،تلك القفزة التي أحدثها نظير ورفاقه لم تتسق مع طبيعة حبيب جرجس مؤسس مدارس الأحد،لكن رغبة التغيير الشابة تمكنت من السيطرة التامة على معسكر مدارس الأحد.
وشهدت المجلة باكورة قصائدة المنشورة والتي تحمل "أبواب الجحيم"،وتغلب عليها عاطفة الحماسة الدينية التي فجرت الثورة بعدئذ في جدران التقليدية بحسب رؤية نظير ورفاقه.
واستمر العمل داخل مدارس الأحد التي استطاعت عبرمجلتها الشاملة أن تستحوذ على قطاع كبير من الأقباط، ومدارس الأحد حسبما أفاد المفكر الإسلامي فهمي هويدي"لم تشكل تقاطعا فكريا مع فكر الإسلاميين خلال تلك الفترة".
الرحلة إلى الدير
ويشرح يسري رياض الصديق المقرب من البطريرك تفاصيل رحلة نظير جيد إلى الدير قائلا" في صيف عام 1954 كنت واقفا مع بعض الزملاء ،ومر نظير حالقارأسه دون أن يلقي السلام،فنايدته قائلا "يانظير إنت لاجيت ولاسلمت " فصمت..وشعرت حينها أنه سيتجه إلى الدير،وكانت تلك المرة الأخيرة التي رأيته فيها بقميص وبنطلون"..
رحلته إلى الدير لم تكن تنفصل عن تطلعاته التي ترمي إلى الإصلاح الكنسي ،وإنما ارتأى شباب مدارس الأحد الثائرون على البابا يوساب، إنتهاج سياسة الإصلاح من الداخل ،عبر الرهبنة ثم الإرتقاء في العمل الإداري الكنسي، حتى الوصول إلى مقعد البطريرك .
على أعتاب دير السريان ترك نظير جيد روفائيل دنياه واسمه لينتقل إلى حياة جديدة من العزلة التي كانت تستهويه بحكم طبيعته الشاعرة ،كانت الزيارة الأولى للدير مجرد إستطلاع فقط لفكرة الرهبنة غير 7 أيام حولت مسار "الثائر على الكنيسة " ليصبح بعد بضعة ايام الراهب "أنطونيوس السرياني " ،ويمضي 10سنوات من الإنقطاع عن البشر تماما ،تاركا العنان لشغفه بالقراءة والشعر .
وبحسب المقربين اختار الراهب دير السريان أسوة بمعلمه الروحي الأب متى المسكين ذو السمعة الطيبة في العلم الروحي ،ومنزوع الشهرة بين شباب مدارس الأحد ،تتلمذ "أنطونيوس" على يديه ،ثم اختلفا في منهج دراسة اللاهوت عقب كتاب أصدره متى المسكين بعنوان"حياة الصلاة في الأرثوذكسية"،وأطلع عليه الراهب التلميذ ليكتشف إختلافا منهجيا مضاد لما تعلمه في مدارس الأحد ،تقول الدوائر المعنية "أن أسباب الإختلاف بين الراهب أنطونيوس السرياني ،ومتى المسكين يرجع إلى إختلاف الهدف من الرهبنة ،من ناحية أن الأول زحف إلى الدير رغبة في الإصلاح الكنسي لمخالفات البابا يوساب ,بينما الثاني اتجه للرهبنة راغبا في دراسة الكتاب المقدس ،وتعزيز الجانب الروحي.
رحل البابا يوساب ولم يكن انطونيوس قد أكمل عامين في الرهبنة ،فيما برز تيار مدارس الأحد على ساحة المنافسة على البابوية ،غير أن المجمع المقدس وقف بالمرصاد لتطلعات الرهبان الشباب،واستطاع بجرة قلم إجرائية إستبعاد تيار مدارس الأحد ،ليعتلي البابا كيرلس المقعد البابوي وتشهد الكنيسة أهدأ فتراتها على الإطلاق ،بعد توافق بين التيار على البطريرك الجديد.
بعض المقربين من البابا كيرلس نصحوه باستدعاء "رهبان جيل مدارس الأحد " إلى العمل الإداري بالكاتدرائية ،مكافأة على دعمهم له في موقعة البابوية ،واتخذ كيرلس قراره في سبتمبر 1960 برسامة "الأنبا شنودة"أسقفا للتعليم ،وصديقه"صموئيل" ومنافسه على البابوية بعد ذلك "اسقفا للبحث العلمي ..
إنطلق الأنبا شنودة داخل الكنيسة ،وخصص الجمعة من كل أسبوع لإلقاء عظته للشباب القبطي في شرح الكتاب المقدس ،عازفا طول الوقت على مشاكلهم اليومية ،في مسار مخالف لما تتبعه الكنيسة ،وأسس بعد ذلك مجلة الكرازة التي تحولت على يديه إلى منبر لرصد مخالفات البابا كيرلس ،وذاع صيت الأنبا شنودة لدرجة أن عظته كان تحظى بحضور للشباب والكهنة منقطع النظير ،لدرجة دفعت الأجهزة الأمنية إلى تصوير تجمعه مسعى لـ"الفتنةالطائفية".
الأنبا الطامح: ربنا موجود
ضاق الأنبا كيرلس ذرعا بتصرفات أسقف التعليم الطامح الأنبا شنودة، وأصدر قرارا في أكتوبر 1967 بإعادته للدير مرة أخرى، وكتب الأسقف في مجلة الكرازة قبيل مغادرته أيها الأخوة إن كنت سببا لما أنتم فيه فسوف أعود إلى الدير، وذيل مقاله بشعاره المميز حتى رحيله "ربنا موجود".
الأغرب في تلك الواقعة هو خروج المظاهرات المطالبة بعودة الأنبا شنودة ،ومع وفاة البابا كيرلس في 9مارس 1971تنافس الأنباشنودة مع رفيقه الأنباصموئيل والأنبا تيموثاؤس على مقعد البابوية ..
في تلك الواقعة يقول يسري رياض سيدراك صديق البابا "أخبرني شوقي جيد –شقيق البابا-أن الحكومة منعت الأنبا شنودة من الترشيح، باعتباره ذا نشاط ثوري، ورفعت التقارير إلى رئيس الدولة عن أقرب المرشحين لخلافة البابا كيرلس وكانت النتيجة إنحصار المنافسة بين الأب متى المسكين ،والأنبا شنودة، وتقول المصادر أنه عندما سأل الرئيس وزير الداخلية عن الأفضل فرد قائلا "ياريس شنودة بتاعنا"..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق