لقد ظلت أمى تجرى خلفنا من معتقل إلى آخر.. وكانت قبلها لا تعرف من الدنيا إلا بلدتنا الصغيرة ديروط ومحافظتها أسيوط حيث تعيش خالتى.. فلما اعتقلت مع أشقائى إذا بهذه المرأة البسيطة تطوف خلفنا سجون الدنيا كلها.. تارة تذهب إلى سجن أبو زعبل وهو أسوأ سجون الكرة الأرضية.. وأخرى لى ليمان طرة.. ومرات إلى استقبال طرة.. وتارة إلى دمنهور ووادى النطرون فى أقصى الشمال.. ومرات إلى سجن الوادى الجديد فى أقصى الجنوب..لم تضجر ساعة.. ولم تتوقف عن العطاء أبداً.. تحمل إلينا أمومتها الحانية ومشاعرها المتدفقة وكلماتها الجميلة المنتقاه مع سلواها لجراحنا ومعها كل ما لذ وطاب من الطعام تحمله على رأسها، وهى السيدة المسنة وتلاقى الأهوال عند أبواب السجون يعيدها هذا السجان ويزجرها الآخر ويؤخرها الثالث وتخضع للتفتيش.. وقد تصل إلى بوابة السجن مع غيرها من الأمهات فى السادسة بعد الفجر فلا تدخل إلا الساعة 12 ظهرا.. فى حر الصيف أو فى برد الشتاء دون أن يكون هناك مكان آدمى للانتظار.. حيث لم تنشأ هذه الأماكن إلا بعد عام 2002 م تقريباً.
وأذكر
أنها ذهبت يوماً لزيارة شقيقى المرحوم أحمد سعيد وكان وقتها معتقلاً فى سجن دمنهور فقال لهم الضباط: ليست هناك زيارة اليوم لأن هناك تفتيشا للسجن من مصلحة السجون.. وكانت هذه التفتيشات قبل المبادرة أسوأ ما تكون وتعنى فقط الأذى والإهانة والتكدير والضرب.. ولا تفتيش فيها ولا يحزنون.. حيث لم يكن مع المعتقلين شىء على الإطلاق من أغراض الحياة الآدمية.. ولكنه العقل الفرعونى الطائش الذى لم يعرف يوماً حكمة ولا عقلا.. ولكن المبادرة أعادت العقل والحكمة للجميع.
المهم ماذا تصنع أمى ومن معها من السيدات من الصعيد فى هذا اليوم؟ هل ترجع وتقطع قرابة 800 كم دون رؤية فلذة كبدها وولدها الحبيب أحمد؟ وكيف تبيت فى دمنهور وهى لا تعرف فيها أحداً على الإطلاق؟ لقد ذهبت هى ومن معها إلى محطة القطار وهناك جاءتها الفكرة أن تبيت هى ومن معها من النسوة فى المحطة.. فاستأذنت رئيس المحطة أن يبيتن فى استراحة القطار وأن يغلقن الباب عليهن بالليل..ونظفن المكان ثم افترشن الأرض والدكك الخشبية ونمن عليها حتى الصباح.
لقد كانت أمى تدعو طويلاً وكثيراً «يا رب لا تمتنى حتى أرى ابنى ناجح فى الحرية»، وكنت أنا أدعو كثيرا أن أدركها وأبى فى الحرية قبل الممات وأرد بعض جميلها.. وكنت أقول كيف سأرد لها هذا الجميل العظيم.. كيف أوفيها بعض حقها وفضلها.. وأخيرا وجدتها.. فقلت لنفسى: أمى لم تحج حتى الآن.. وأعظم هدية أقدمها لها أن أتولى ذلك.
وجاءت الفرصة سانحة فتيسر لى أمر الحج وجمعت كل ما أملك وكل ما استطعت جمعه من نتاج بيع كتبى.. وبشرتها بالخبر السعيد الذى كادت أن تطير به فرحا.. فإمكانيات والدى المادية وقتها لم تكن تسمح لها بالحج..وكل ما صرفه من مكافأة نهاية خدمته الحكومية التى وصلت قرابة 40 عاما مكنته بالكاد أن يحج هو فقلت: «الآن جاء دورى لأن أعيش مع أمى فى أطهر مكان.. وأن أسعد بصحبتها بعد طول فراق».. خاصة أننى تركت بلدتى فى الصعيد وعشت فى الإسكندرية، وكان من أسباب ذلك الإشفاق الكبير عليها.. فقد كانت تخاف علىَّ بعد خروجى من المعتقل وكأننى طفل صغير.. إذا تكلمت مع صحفى تقول: «يا بنى خليك فى حالك ولاد الحرام كثير».. وإذا تحدثت فى الدعوة والدين تقول: «يا بنى لا نريد مشاكل مع الحكومة». وإذا سافرت من بلدتى وعلمت بذلك: «يا بنى سايق عليك النبى لا تروح هنا ولا هنا إن كنت بتحبنى» فقلت: أعيش فى الإسكندرية حيث نشأ أولادى.. فلا أغضب أمى وأكسب دعوتى ورسالتى وأعمل ما أشاء دون إزعاجها.
لقد كانت تعتبرنى وأنا فى الخمسين من عمرى طفلها الصغير الذى تخاف عليه وتخشى عليه الغوائل.. رغم قوة إيمانها وثبات يقينها.. فإذا رأتنى بعد الثورة فى إحدى القنوات الفضائية أو فى الصحف سعدت من داخلها ولكنها تقول: «يا بنى يقطع الجرايد والقنوات وسنينها.. مالنا إحنا ومالها».. فأطيب خاطرها.. فتضحك وتمضى الحياة صافية.
وكانت رحلة الحج مع أمى أغلى فترة عشناها سويا منذ أكثر من ربع قرن..قرابة شهر كامل لم نفترق.. لم أشأ أن تأكل مع النساء.. فكنت أحضر الطعام فى الفندق ونأكل سويا.. أو نأكل فى ساحة الحرم.. أو فى المطاعم الفاخرة فى مكة والمدينة.. شعرت أنها أغلى الأيام وأحلاها وأجملها.. كنت أدفع الكرسى المتحرك الذى تجلس عليه فى الطواف بسعادة غامرة.. فكم حملتنى قبل ذلك.. وكم آوتنى.. كم ضحكنا سرورا.. وكم خشعنا وبكينا..كم دعونا دعاء ً طويلا.. وكلانا يؤمن على دعاء الآخر.. كان لسانها متدفقاً بالدعاء لكل الناس..لا تكره أحداً ولا تدور حول ذاتها. إنها أيام الحب الخالص لله سبحانه ولرسوله «صلى الله عليه وسلم» ولأمى.. وهى أعظم من وجدتها تحب الله ورسوله وإيمانها وتقواها وصلاحها أعظم منى ملايين المرات.. ازدريت إسلامى إلى جوار إسلام هذه المرأة البسيطة.. وعبادتى إلى جوار عبادتها.. لقد ظلت تصوم الليل حتى آخر عمرها.. لم تأكل لقمة واحدة من الحرام.. تحسن إلى جيرانها.. يفيض حبها على الجميع.. تتحدث عن الجميع بالخير.. لم أرها تكره أحداً.. ولم أجد أحداً يكرهها.
آه يا أمى.. أنت الإسلام بحق وأنا العملة المزيفة..فكم من عوام المسلمين من هو أفضل إسلاماً وأعظم يقيناً وتوكلا من أكابر الدعاة والوعاظ..رحمك الله يا أمى.. يا من تعلمت ومازلت أتعلم منك الكثير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق