الطريق إلى قرية «دير الجنادلة» بمركز الغنايم بمحافظة أسيوط يوحى بعدم الاكتراث، على الجانبين أراض زراعية ينتهكها العمران، تتناثر فيها أجساد رجال ونساء يعملون، فى الوقت الذى يصطف فيه آخرون على أبواب اللجان فى محافظات، انتظاراً لدورهم فى الإدلاء بأصواتهم فى المحافظات التى جرت فيها المرحلة الأولى من الاستفتاء على الدستور الجديد.
يقول مرافقنا أحمد فوزى، الطالب بكلية التجارة: «نعم ولا هنا مش هتفرق.. الصعيد دولة تانية»، ويوضح: «الدولة مبتديناش حاجة ومعدناش عاوزين منها حاجة»، ينتمى أحمد لأسرة ثرية من كبار ملاك الأراضى بمركز الغنايم، ولا يجد أهمية للمشاركة بالتصويت فى الاستفتاء، وإن كان كغيره من السواد الأعظم من سكان القرية ينتظر استقراراً يقول عرضاً فى حديثه إن القرية تتمتع به بالفعل.
تحتوى القرية الثرية نسبياً على أربع كنائس، واحدة منها كاثوليكية وأخري إنجيلية، وكنيستان أرثوذكسيتان، تخدم الكنائس الأربع، ثلث سكان القرية تقريباً، التى منحت للرئيس محمد مرسى أعلى نسبة تصويت فى المرحلة الثانية من انتخابات الرئاسة المنقضية.
على أبواب اللجان الفرعية بمدرسة دير الجنادلة الثانوية المشتركة يتراص نفر قليل من كبار السن، ويفسر أحمد عمران الغياب اللافت للشباب عن التصويت بأن شباب القرية يتجهون فى السنوات العشر الأخيرة للسفر خارج البلاد، لغياب فرص العمل، ولا يوجد فى القرية سوى النساء والعجائز.
للوهلة الأولى لا تبدو القرية منقسمة فى التصويت على الدستور، فبحسب العالمين ببواطن الأمور فيها ومنهم «قبارى صديق»، مدرس اللغة العربية، اتجه معظم سكان القرية للموافقة. يخفى قبارى غضبه من اتجاه التصويت، مصدقاً على أن مسودة الدستور المستفتى عليها «ستسحق الفقراء»، لكنهم يقلبونها «دون علم».
«قبارى» كان ممن اعتقلوا بتهمة الانتماء لتنظيمات سياسية مسلحة فى تسعينيات القرن الماضى، ورغم أنه لم يكن ينتمى إلى التيارات الإسلامية، ومنها الجماعة الإسلامية التى اتخذت من مدينته «أسيوط» مركزاً ومعقلاً رئيسياً لها فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، إلا أنه يحفظ فى ذاكرته خمس سنوات فى المعتقل على خلفية انتماء لم يؤمن به، وكان من معارضيه وقتها.
ذاكرة «كامل حزقيال السبوعة»، أحد أقباط القرية،
لم تسقط هذا التاريخ الدموى أيضاً، واستدعته كاملاً فى لحظة التصويت، يمتهن كامل وابن عمه عادل مهنة تتوارثها العائلة تجمع بين السمسرة ومسح الأراضى، المهنة المتوارثة أكسبت العائلة ثروة جيدة وضعتهم فى مصاف أغنياء القرية، مع مستوى تعليم متوسط لرجال العائلة وعالٍ لبعض شبابها من الذكور، اتجه أفراد العائلة للتصويت ضد الدستورى رغم أنهم يدعمون «الاستقرار» كلياً، يقول «كامل»: لن يأت الاستقرار عبر دستور يمثل فئة واحدة من المجتمع، الطريق للاستقرار هو دستور يمثل جميع المصريين، هذا الدستور «مابيمثلنيش».
يبدى «كامل» وابن عمه وشريكه عادل السبوعة تذمراً من فكرة الهجرة التى باتت تتردد بين فئات من مسيحيى مصر، ويحملان اتجاهات عدائية ضد التظاهر والاحتجاج عموماً ولا يجدان فيه جدوى، يقول عادل: «عمل إيه التظاهر للناس فى التحرير والاتحادية، الإخوان ضربوهم، هم سيفعلون ما يريدون على حساب الشعب كله ولن يهتموا».
يتوقع «عادل» أن الأقباط فى مصر «هيشوفوا أيام عذاب» ويتوقع عنفاً موجهاً نحو الأقباط، كالذى شهدته أسيوط و«محافظات أخرى» خلال عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى.
المخاوف نفسها لا مكان لها فى بيت عائلة «أرمانيوس»، هى واحدة من عائلات مسيحية تحيا ــ بحسب وصف المتعلمين فى القرية ــ «تحت الصفر» يشرف بيتهم المبنى بالطوب الأحمر على قطعة أرض متناهية الصغر مستأجرة من الدولة، ويتشكل رأسمالهم فى عدد من رؤوس الماشية، أتى عليها حريق فى أكتوبر الماضى لتفقد الأسرة عماد عيشها، نتيجة لماس كهربائى تسبب فيه خطأ هندسى فى إمداد الأسلاك، وانتهى المحضر، الذى حررته الأسرة ضد شركة كهرباء أسيوط للحفظ رغم إقرار مهندسى الشركة بمسؤوليتها عن الخطأ ــ حسب المحضر رقم ١٩١٢ لسنة ٢٠١٢ نيابة الغنايم.
ورغم هذه العلاقة الملتبسة مع أجهزة الدولة اتجهت الأسرة لوضع علامة على الدائرة الزرقاء «نعم»، بعد أن قيل لأفرادها أمام اللجنة إن الدائرة الزرقاء ستضمن أن «الحال يمشى»، يقول خيرى عزيز أرمانيوس، كبير الأسرة: «محدش فينا راح المدرسة، واللى بيقول عليه الناس مصلحة بنمشيه»، يحرص خيرى على التأكيد على أن قريتهم هادئة ولم تشهد أبداً أعمال عنف موجهة ضد الأقباط وكنائسهم، وظلت كذلك طوال فترة العنف الأهلى، التى شهدتها المحافظة فى العقدين الأخيرين من القرن الماضى.
أعطى خيرى أرمانيوس صوته لمحمد مرسى فى مرحلتى انتخابات الرئاسة، لأن أحدهم قال له أمام اللجنة إن «الميزان فيه المصلحة»، يتدخل عيسى ابن عمه هامساً فى ضجر: «ومافيش مصلحة بتنقضى». اللافت أن «خيرى» نفسه لا يذكر مصلحة واحدة حققها له أى ممن انتخبهم فى الانتخابات النيابية المتعددة التى قام بالتصويت فيها، تحتفظ الأسرة كلها بإخلاص على قطيعتها مع الدولة ومؤسساتها وسلطاتها المختلفة، منذ اختفاء «فارس عزيز أرمانيوس» شقيق خيرى، فى الموجة الأولى للعبور فى السادس من أكتوبر، لم تستطع الأسرة استرداد جثمانه أو التأكد من خبر استشهاده، وتقدم خيرى للتجنيد، لأنه لم يستطع إثبات استشهاد شقيقه ليمنح الإعفاء من الخدمة بصفته صار عائلاً للأسرة.
تشير مريم عبدالشهيد، زوجة «عيسى أرمانيوس»، للشبابيك المحترقة، وتوضح أنهم لجأوا لسدها بالقماش والمشمع اتقاء للبرد بعد احتراقها بسبب الماس الكهربائى الذى أتى على رأسمال الأسرة قبل شهرين، مريم قررت التصويت بالموافقة فى الاستفتاء بعد أن قيل لها إن الموافقة على الدستور ستضمن لأسرتها معيشة أفضل.
وفى مدينة أسيوط سجل مراقبو جبهة الإنقاذ الوطنى قيام موظفة باللجنة رقم خمسة بمدرسة الثورة، فى غياب القاضى المشرف، بتوزيع ورق استفتاء غير مختوم اختصت به الأقباط «يتم استبعاد الأوراق غير المختومة من عملية الفرز»، بينما نال المسلمون المصوتون أوراقاً صحيحة مختومة وقاموا بتحرير محضر بالواقعة بعد أن نجوا من محاولة اعتداء تمت من أفراد قامت تلك الموظفة باستدعائهم بالهاتف، ويعلق كامل السبوعة: «الوضع يختلف فى قريتنا، فهناك مسلمون رافضون للدستور، وهناك مسيحيون قبلوا به لأنهم لم يقرأوا مواده ولا يعرفون ما فيها، لا يوجد تصويت طائفى فى القرية»، ويتابع: «على كلٍ فالمصائب ستطالنا جميعاً بدرجات متفاوتة».
عزة مغازى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق