قبل انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين، كان الرجل شاعراً وناقداً أدبياً ومصلحاً اجتماعياً ومفكراً، وبعد عودته من بعثته الدراسية، فى الولايات المتحدة الأمريكية، وانضمامه للجماعة تحول من الناقد إلى مفتٍ للموت، ومن المفكر إلى مكفر، إنه "سيد قطب"، الذى أفرزت أفكاره عن الحاكمية والجاهلية، التنظيم القطبى والعديد من الجماعات الإسلامية الجهادية، وجماعات التكفير والهجرة، كما أن تنظيم القاعدة، رغم نسبته للسلفية الجهادية، إلا أن معظم قادته قطبيون ويتبنون الأفكار القطبية.
بدأ سيد قطب مرشداً فكرياً لثورة يوليو، ومستشارا لها فى شئون التعليم وانتهى فيها محكوماً عليه بالسجن على ذمة قضية الإخوان 1954، هو مؤلف كتاب "معالم فى الطريق" الذى وصف فيه المجتمعات الإسلامية التى لا تطبق الشريعة، كما يراها هو، بأنها مجتمعات جاهلية، وأن حكامها وأهلها كفار، كما رسخ سيد قطب،أيضا فى هذا الكتاب، لفكرة الحاكمية الإلهية واعتبر أن من يطبقون القوانين الوضعية ينافسون الإله سبحانه وتعالى فى حكمته وحكمه، فقد كان هذا الكتاب الذى صمم قطب على نشره بياناً تكفيرياً واضحاً، كما أنه انقلاب جذرى خطير فى المفاهيم، انقلاب قضى على حرية الإنسان ووضعه فى عداء مع مجتمعه وأعاد السياسة- الصراع على سلطة الدولة- إلى جوهر الصورة بشكل غير مسبوق فى تاريخ الفكر الإسلامى المصرى، وإن كانت له سوابق فى الفكر الإسلامى الحديث، وبعد نشر الكتاب بعام كان سيد قطب يحاكم متهماً بأنه ترأس تنظيمًا إخوانيًا أعد لاغتيال رئيس الجمهورية، وتفجير القناطر الخيرية والتجهيز لانقلاب مسلح، والترويج لأفكار تكفيرية، وضمت قائمة المتهمين مع سيد قطب محمد بديع المرشد الحالى للجماعة، ومحمود عزت نائب المرشد العام ورمز القطبيين القوى، وجمعة أمين، ورشاد بيومى، وما يقرب من 80% من أعضاء مكتب الإرشاد الحالى، كانت علاقتهم الأولى بالإخوان وبالسجون من خلال سيد قطب الذى ترك أفكاره الظلامية والدموية داخل عقولهم.
والأفكار التى يرتكز عليها التنظيم القطبى،
أن المجتمعات المعاصرة مجتمعات جاهلية بما فيها المجتمعات الإسلامية، كفر الحكومات القائمة فى بلاد المسلمين، عدم جواز المشاركة فى الحكم أو ممارسة العمل السياسى فى ظل الحكومات الكافرة، وجوب جهاد الحكومات الكافرة، رفض الدعوة العلنية وتفضيل نهج التنظيم المغلق، وتكفير حب الوطن.
ولأن المجتمع المسلم، فى رأى "قطب"، هو الذى يُحكم بالشريعة وليس الذى يتكون من أفراد مسلمين، وصل صاحب"معالم على الطريق" إلى نتيجة خطيرة هى أن المجتمع المعاصر جاهلى فيقول فى كتابه: "نحن اليوم فى جاهلية كالجاهلية التى عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميا، هو كذلك من صنع هذه الجاهلية".
وكان يرى قطب للقضاء على هذه الجاهلية لابد من تكوين" العصبة المؤمنة" ووهى الجماعة من المؤمنين المتبنين بشكل كامل لفكرة ومنهاج حاكمية الله، وعند نقطة معينة من التمكين، يجب أن تمارس هذه العصبة الجهاد لتحقيق حاكمية الله على الأرض، وهو ما يعنى، عمليا، الاستيلاء على سلطة الدولة كنقطة بداية لبناء المجتمع والقضاء على الجاهلية، وكما يقول فى كتابه معالم فى الطريق فى فصل "الجهاد فى سبيل الله": "والذى يدرك طبيعة هذا الدين يدرك معها حتمية الانطلاق الحركى للإسلام فى صورة الجهاد بالسيف- إلى جانب الجهاد بالبيان- ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية- بالمعنى الضيق الذى يفهم اليوم من اصطلاح الحرب الدفاعية كما يريد المنهزمون أمام ضغط الواقع الحاضر".
وقد التقى فكر قطب فى منتصف الستينيات مع جسد تنظيمى جديد يحاول أن يجد لنفسه طريقا فى مواجهة النظام الحاكم، فيحكى المؤرخ شريف يونس أنه فى 1963، وصلت كتابات سيد قطب إلى اثنين من قيادات تنظيم سرى للإخوان خارج السجون، وبحلول عام 1964، تكونت مجموعة من قادة شباب الإخوان، تدعو للفكر القطبى نجحت فى اجتذاب غالبية مسجونى سجن القناطر الشباب، فتوسع التنظيم ليضم أكثر من مائتى شخص، ومع خروج قطب من السجن فى مطلع 1965 تولى قيادة التنظيم الناشئ على غير علم من قيادات جماعة الإخوان، فقد كان قطب نفسه يتصور أن ما يقوم به هو إعادة تسليح فكرى لجماعة الإخوان المسلمين، وليس انشقاقا على الجماعة.
بيد أن إعدام قطب لم يضع نهاية للقصة، فقد كانت أفكاره تجد طريقها إلى الانتشار حتى أصبحت هى الأساس الفكرى الأهم لحركة الإسلام الجهادى التى طفت على سطح المجتمع ولعبت دورا كبيرا فى حياته فى سنوات السبعينيات وما بعدها.
إن تاريخ جماعة الإخوان- باستثناء السنوات الست التى قضاها عمر التلمسانى مرشداً للجماعة والتى استقطب خلالها عدداً من شباب الجماعة الإسلامية لعضوية الإخوان مثل عصام العريان وعبد المنعم أبوالفتوح وحلمى الجزار وإبراهيم الزعفرانى وأبو العلا ماضى، ومحمد حبيب- يؤكد على أنها أصبحت جماعة قطبية، وأن السيطرة كانت للقطبيين، فقد كان هناك جيلان من "السريين" داخل الجماعة، الجيل الأول هو جيل الآباء، وهم مجموعة النظام الخاص ورمزهم "مصطفى مشهور" المرشد السادس للجماعة، وجيل الأبناء أو مجموعة القطبيين الذين انضموا للجماعة بعد موت حسن البنا ولم يعرفوا أباً روحياً وفكرياً لهم سوى سيد قطب، وعلى رأسهم الدكتور محمد بديع، المرشد الحالى للجماعة.
فرسائل "التلمساني" إلى قيادات الإخوان فى الخارج وعلى رأسهم الدكتور يوسف القرضاوى فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى يحذرهم فيها من التعامل مع تنظيم "العشرات " وهم الذين يمثلون مكتب الإرشاد حاليا، أما تسميتهم بتنظيم العشرات فذلك نسبة الى قضائهم 10 سنوات فى السجون المصرية من عام 1965 الى عام 1975، حيث قال التلمسانى فى رسائله "أن هؤلاء ليسوا من الإخوان"، فقد خرج أعضاء هذا التنظيم وكان على رأسهم المرشد الحالى الدكتور محمد بديع، وأعضاء مكتب الإرشاد الحالى رشاد البيومى، ومحمود عزت، خرجوا من السجون المصرية فى تلك الفترة وغادروا مصر الى دول عربية وكان هؤلاء أبرز تلاميذ الشيخ "سيد قطب" والذين اعتمد عليهم الأخير فى تأسيس تنظيم القطبيين، وهذا ما كشفة الدكتور ثروت الخرباوى فى كتابه" قلب الإخوان".
كان هؤلاء قد اجتمعوا فى نسيج واحد مع أفراد التنظيم الخاص وأصبح مرشدهم الحقيقى وقتها "بديع" و"عزت" وأصحابهم، و"مصطفى مشهور " الراعى الرسمى لهم وحينما خرجوا من سجونهم أرسلهم مشهور للعمل فى كثير من البلاد العربية، وقتها خشى عمر التلمسانى المرشد الثالث للجماعة من اندماج تلك المجموعات مع أفراد جماعة الإخوان بالخارج، اذ قد يظن أعضاء الجماعة بالخارج من خلال توصيات مصطفى مشهور أن هؤلاء من الإخوان أصحاب الدعوة، أو من الذين تربوا على يد حسن البنا، فى حين أنهم من تلاميذ سيد قطب فأرسل التلمسانى رسالة هامة إلى الإخوان فى كل الدول العربية وقال لهم فيها "احذروا من تنظيم العشرات لأنهم ليسوا من الإخوان".
وفقاً لهذا التحليل فإن صعود نجم كل من محمد حبيب وخيرت الشاطر طوال سنوات التسعينيات لم يكن صدفة، فمحمد حبيب أستاذ من أسيوط ضمه التلمسانى لعضوية الجماعة ولفت الأنظار حين فاز برئاسة نوادى التدريس فى جامعات مصر وقبلها بعضوية مجلس الشعب، كان أداؤه أقرب لمجموعة السبعينيات داخل الجماعة لكنه أبدا لم يكن منهم، وكان خيرت الشاطر على العكس تماماً كان يسارياً سابقاً وقيادياً فى منظمة الشباب اكتسب خبرة التنظيمات السرية قبل أن ينضم للإخوان فى 1972 ويسافر لدراسة الهندسة فى الخارج ويعود بأفكار اقتصادية ناجحة أبهرت الإخوان وأضافت لأرصدتهم الكثير، كان خيرت الشاطر بتكوينه، وميله للصمت، وبراعته فى إحكام أدوات السيطرة وحبك الخطط أقرب لجماعة القطبيين رغم أنه أيضاً لم يكن منهم!
تقول التحليلات إن عودة الإخوان الذين هاجروا للخليج بثروات كبيرة فى التسعينيات دعمت موقف الشاطر الذى كانت لديه الأفكار والخطط لاستيعاب الأموال العائدة وأنه سرعان ما تآلف مع محمود عزت كبير الكهنة كما يصفه معارضوه بحيث أصبح خيرت هو "المخ" وعزت هو "العضلات"، لكن هذا لم يمنع تعايش القطبيين مع تيار الأداء الإعلامى الذى استمر طوال فترة المرشد السابع محمد مهدى عاكف بناء على رغبته وتشابهه مع التيارين فى نقاط مشتركة، فهو من الجيل الذى جنده حسن البنا.
ولكن فى بدايات عام 2010 أعلن القطبيون نهاية عصر المشاركة، ليصبح محمد بديع المرشد الثامن للجماعة، ويزعزع هذا التوازن الذى حرص عليه كهنة الجماعة ومرشدوها المتعاقبون، فبعد الضغط على "مهدى عاكف " لم يكن أمامه سوى أن يتنحى وأن يعلن أن 13 يناير 2010 هو آخر يوم له فى ممارسة مهامه، وكان من الطبيعى أن يحل محله نائبه محمد حبيب لمدة ستة أشهر هى مدة ولاية مجلس شورى الإخوان، خاصة أن نائب المرشد الآخر خيرت الشاطر يقضى عقوبة السجن فى قضية الاستعراض العسكرى، لكن القطبيين قرروا إجراء الانتخابات مباشرة بعد استطلاع رأى مجلس الشورى الذى رفض ثم وافق تلبية لرغبة محمود عزت، وتمت الانتخابات ليجد محمد حبيب نفسه خارج كل شىء، ويخرج عبد المنعم أبوالفتوح من عضوية مكتب الإرشاد، وينجح عصام العريان بمفرده كواحد من 16عضوًا فى مكتب الإرشاد وسط اتهامات من زملائه بأنه عقد صفقة أو قدم تنازلاً لم يكن ينبغى له أن يقدمه، وعلى خلاف ما توقع الكثيرون فلم يحدث انشقاق حقيقى فى صفوف الجماعة ليس فقط لأن التيار الذى هزم لا يملك نفوذًا تنظيميًا حقيقيًا داخل الجماعة التى يتحكم الشاطر فى تمويلها وعزت فى قوائم عضويتها، ولكن أيضا لأن نمط العضوية فى الإخوان يجعل الخروج منها بمثابة موت معنوى ومادى واجتماعى لأعضائه، لذلك يفضل أعضاء الفريق المهزوم غالباً أن يبقوا فى حالة "كمون" حتى تتغير الظروف، وهو ما فعله عبدالمنعم أبوالفتوح وآخرون بالضبط، حتى جائت ثورة يناير، وبدأت بعض التوجهات المخالفة للقطبيين داخل الجماعة قى الانشقاق عنها.
أبناء سيد قطب طول السنوات الماضية يحاولون صياغة مناهج التربية داخل الجماعة، وهم لا يقولون للقواعد الإخوانية إن المجتمع كافر لكنهم يربونهم على أن المسلمين من غير الإخوان أقل فى درجة الإيمان وأن المسلم الإخوانى أفضل من أى مسلم آخر وأن مصلحة الجماعة فوق مصلحة المجتمع فى حين يؤكد المرشد الثامن"محمد بديع" أن المرأة والقبطى لا يصلحان لرئاسة الدولة وأنه ليس من حق الناس أن يقرروا أمراً يتعارض مع الشارع، كما أعلن، فى تصريحات شهيرة نشرت فى 2010، أن المجتمع "ملىء بالنجاسة" وإن الإخوان يحملون ماء "السماء الطهور" الذى سيطهر المجتمع، واصفا الأب الروحى للتكفير"سيد قطب" بأنه مصلح عظيم، وهذا ما دفع واحدا من أعضاء الجماعة المنشقين مثل أبو العلا ماضى لأن يصرخ قائلاً إن أعضاء الجماعة الذين يربيهم القطبيون الآن سيتحولون إلى قنابل موقوتة تنفجر فى وجه المجتمع خلال سنوات، وهو ما حدث فى 30 يونيه من سقوط لجماعة الإخوان، ومحاولتها لإثارة الفتن والقتل، وما يقوم به أتباعهم وأصحاب الفكر القطبى ذو المرجعية السلفية من الجهاديين والإرهابيين من قتل فى سيناء.. فما الحل مع جماعة لاتريد أن تجد لنفسها أى حل.
ياسر ابو جامع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق