بالتزامن مع التصريحات الأخيرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الموجهة للشباب “متتغربوش في الخارج.. إحنا محتاجنكم أكتر من أي وقت”، جاءت رحلة مراسل “هافينغتون بوست عربي” إلى مركز أبنوب بمحافظة أسيوط المصرية، والذي يعد أكبر تجمعات الشباب الطامحين للهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا تحديداً.
وبعيداً عما تتناقله وسائل الإعلام عن مراكب غارقة في عرض البحر، التقينا بعدد من الشباب وذويهم، فتحدث إلىنا بعضٌ ممن سبق لهم الهجرة إلى إيطاليا بطريقة غير شرعية، أو أقارب من عملوا كسماسرة هجرة، ليحكوا عن تجاربهم والأسباب التي دفعتهم ليسلكوا ذاك الطريق.
البحث عن احترام الذات الإنسانية
يقول محمد (اسم مستعار) الحاصل على دبلوم زراعي، أنه لم يكن يجد وظيفةً توفر له عائداً مادياً مناسباً، فاضطر للعمل في عدة وظائف دون أي اعتراض على نوعيتها، لكن الصعوبات المادية وقفت حائلاً بينه وبين الحياة الكريمة التي كان يتمناها.
وعندما وجد أن غالبية أصدقائه الذين سافروا إلى إيطاليا بطرقٍ غير شرعية يتحدثون عن أسلوب حياةٍ لم يسبق أن عاشه، قرر خوض التجربة بالرغم من معرفته بالمخاطر التي قد تصادفه قائلاً، “الموت معادش فارق عن الحياة”.
وأضاف “خرجت أنا وبعض أصدقائي من مصر إلى ليبيا في العام 2006 وكان من المقرر أن يأخذنا أحد الليبيين، لكنه تأخر عنا لمدة شهرين، لذا اضطررنا للعمل هناك حتى قابلنا، وانطلقنا إلى مكان يطلق عليه اسم (التخزين)، حيث يقومون بتجميع الذين سيهاجرون، ومكثت لمده 10 أيام هناك بعدها انتقلنا إلى مركب أوصلنا إلى الشواطئ الإيطالية، بعد رحلة استغرقت 65 ساعةً بدلاً من 14 ساعة كاد فيها المركب المهترئ أن يغرق أكثر من مرة”.
وبعد وصول محمد، وجد أن المهاجرين من المغرب العربي، حصلوا على تصاريح دخول بعد 15 يوماً فقط، بينما تمت إعادة المصريين إلى بلادهم بعد 10 أو 12 يوماً.
وأضاف، “لا أعرف بالضبط ما الذي حدث حينها ولكن تخلّف اسمي أو أعتقد أنه النصيب ولم أرحل مع الذين رحّلتهم الحكومة الإيطالية، وبعد مرور 65 يوماً رحّلوني إلى مكان يطلق عليه (الترفية) ومنه أدخلوني إلى قلب إيطاليا”.
وتابع “اختلطت بالشعب الإيطالي، الجميع يتعامل معي على أساس آدميتي، سواءً كانوا من الشرطة أو من الشعب نفسه وعملت لمده عام و10 شهور حيث حصلت علي الإقامة على أساس أني أعيل رجلاً مسناً، لم يسبق لي رؤيته في الحقيقة فقد أعطيته مالاً مقابل الإقامة التي حصلت عليها بسببه، ثم لم أجد وظيفة ملائمة فانتقلت إلى فرنسا حيث كنت أعمل بطلاء المنازل، وهناك اعتقلت 3 مرات، وبالمرة الأخيرة تم ترحيلي لإيطاليا ثم عدت لمصر” وأكد أنه يحمل إقامة إيطالية، “ومازلت أذهب لإيطاليا من أجل العمل وتجديد الإقامة”.
يختم محمد كلامه قائلاً، “لا أستطيع الإقامة في مصر مرة أخرى بشكل دائم، فبعد أن كنت في بلاد تحترم الإنسان وتضع الجميع سواسية أمام القوانين ولا فرق بين رئيس ومرؤوس، لا أستطيع العودة للحياة في مصر، لذا آتي في زيارة قصيرة لا تتجاوز الشهر للاطمئنان على عائلتي”.
تعويض خسارة مادية
يسرد حسن بركات الذي لم يكمل تعليمه، تجربتيه في السفر والتي باءت كلتاهما بالفشل. ذهب المرة الأولى في العام 2006 عندما كان يبلغ من العمر 18، سنة طامحاً في الاعتماد على نفسه وإيجاد لقمة عيش خاصة عندما رأى العديد من أصدقائه هاجروا إلى إيطاليا وقاموا بإرسال الأموال إلى ذويهم، لذا قام بدفع 3 الآف جنيه وذهب إلى الإسكندرية واحتجز في “التخزين” حتى يكتمل العدد، ظل هناك مدة شهر محبوساً بغرفة مع 10 أشخاص طعامهم اليومي علبة من سمك التونة ورغيف خبز يتشاركونه جميعاً.
ويذكر بركات أنها أولى الرحلات التي انطلقت من الإسكندرية بعد أن كانت تلك الرحلات تنطلق من ليبيا، “وصلنا إلى الشواطئ الإيطالية وقسمنا أنفسنا إلى مجموعات كل مجموعة مكونة من 10 أشخاص. كنا منهكين من الرحلة وظللنا نتجول وغذاؤنا التين الشوكي الموجود بالحدائق، إلى أن تم القبض علينا واحتجزنا في مخيم للصليب الأحمر حيث تم توقيع الكشف الطبي علينا وتم ترحيلنا لمركز للاجئين بعدها، وبموجب اتفاقية بين مصر وإيطاليا تم ترحيلي إلى مصر مرة أخرى”.
عمل حسن بعد عودته بعدة أعمال، ثم تمكن من فتح مشروع خاص به ولكن سرعان ما فشل هذا المشروع وكلفه أموالاً طائلة، لذا ولتعويض خسارته، قرر أن يخوض التجربة مرة أخرى في مارس/آذار 2011 نظراً لما تشهده البلاد من ثورة أضرت بالحالة الأمنية.
ولكن المخاطرة كانت أكبر هذه المرة، فهو لم يؤد الخدمة العسكرية بعد، لكنه كرر الخطوات السابقة مرة أخرى مع تعهد بدفع 45 ألف جنية مصري تسدد بعد وصوله واستقراره، ثم ركب في مركب مهترئ يحتوي على 150 شخصاً آخرين يحمل كل منهم حقيبة صغيرة جداً تحتوي على أوراقه الهامة وملابس بسيطة، وقرب وصولهم تمكنت القوات الإيطالية من القبض عليهم بعد أن خسر بعضهم حياته أثناء السفر.
رحل بعدها إلى السجن وسرعان ما عرض على المحكمة هو وأصدقاؤه، فتم ترحيل من هم أكبر من سن 18 عاماً إلى دور رعاية وإعطاء 2 حاصلين على مؤهل جامعي إقامة لمده 5 أيام وتم إيقافه كي يقوموا بترحيله إلى مصر مرة أخرى هو وآخرين الأمر الذي رفض قبوله، فعند عودته إلى السجن قام هو وأصدقاؤه بإحراق السجن المكون من 5 طوابق واستخدموا طفايات الحريق لتكسير زجاج الأبواب والهروب، وعندما كان يحاول الهرب من حصار القوات الإيطالية وجدوا إحدى السيارات وبها المفتاح ولكنها كانت قريبة من النيران فلم يستطيعوا استخدامها ثم تركوها لتنفجر.
سرعان ما ألقت القوات الخاصة القبض عليهم، أثناء مقاومته قام بركات بكسر ذراع أحد الضباط الذي رد عليه بصعقة كهربائية، أفقدته وعيه ليستيقظ بعدها فيجد الضابط يعتذر له بحجة أنه كان ينفّذ القانون، ثم عرض بعدها بركات على المحكمة وصدر بحقه حكم بالسجن لمده سنة و7 أشهر خفف في الاستئناف إلى 8 أشهر، وبعد انقضاء فتره الحكم تم ترحيله إلى مصر مرة أخرى.
فيسبوك قد يكون سبباً
يروي خميس قصة سفر أخيه محمد وابن خالته مصطفى (أسماء مستعارة)، اللذين قررا السفر بسبب تواصلهما مع بعض أصدقائهما على فيسبوك ومشاهدتهما لصور الحياة التي يعيشونها، لذا قرر الاثنان السفر معاً أحدهما على حد قول أخيه "فاشل في التعليم والعمل ودائماً ما يصنع المشكلات" وكان يبلغ من العمر 15 عاماً عندما سافر، والآخر كان بالصف الثاني الثانوي ومهتماً بالدراسة.
يقول خميس، "كنت خائفاً من المشاكل التي قد تحدث بسببه أثناء الرحلة، إلى أن سافر ووصل إلى إيطاليا، وهناك ظل بمخيم الصليب الأحمر لمده 10 أيام ثم اتصل يخبرني بحاجته إلى مبلغ 100 يورو كي يستقل القطار إلى مدينه ميلانو، فأرسلته عن طريق ابن خالتي في إيطاليا، وبالفعل استقل القطار إلى أن وصل إلى ميلانو، فوضع بأحد المدارس الداخلية وقاموا بعرض عدة حرف عليه ليختار منها حرفة يتعلمها فاختار صناعة البيتزا”.
أما ابن خالته ونظراً لتفوقه الدراسي، تبناه أحد القساوسة وأدخله مدرسة خاصة، بعض الإيطاليين لا يستطيعون ارتيادها، حيث تبلغ المصروفات الدراسية 5 آلاف يورو في العام الواحد". ويؤكد خميس أن شخصية أخيه قد اختلفت تماماً منذ ذهابه وأنه وبالرغم من عدم موافقته بأول الأمر على الهجرة إلا أنه سعيدٌ أن أخاه يعيش حياة أفضل لم يكن يستطيع أن يوفرها له، ملمحاً أنه وإذا أراد أخوه الأصغر السفر سيرسله بكل سعادة.
العلاج هو السبب.. وتكلفته قد تصل إلى الموت
يقول أحمد (اسم مستعار)، "توفي ابن عمي ذو الـ 22 عاماً أثناء قفزه من مركب إلى آخر خوفاً من قوات حرس الحدود الإيطالية التي أحاطت بهم فوقع وأصيب بنزيف داخلي برأسه، فتم إرسال نداء استغاثة إلى الإسعاف اليوناني حيث كان أقرب في الوصول إلىهم والذي بدوره أرسل طائرة من أجل نقله وظل في العناية المركزة مدة شهرين".
يذكر أحمد أن سبب سفره هو العلاج حيث أصابه ارتفاع درجة حرارة حينما كان صغيراً سقط على إثره كامل شعره، الأمر الذي أثر عليه نفسياً خاصة عندما كان طفلاً، وما إن سمع عن قصة أحد أقاربه الذي ذهب بطريقة غير شرعية لإجراء عملية جراحية مجانية التكلفة يبلغ سعرها في مصر 42 ألف جنيه مع احتمال 60% أن يحدث شلل، حتى قرر السفر للعلاج تحت أي ظرف ولكنه دفع حياته ثمناً لحلمه.
حول عمليه السمسرة
أثناء الحوار كان هناك عدد من سماسرة الهجرة الذين أبدوا عدم رغبتهم في الحديث إلى “هافينغتون بوست عربي”، خوفاً من حدوث أي مشكلات لهم خاصة أن هناك ضغطاً كبيراً في الوقت الحالي عليهم من أجل إيجاد وجمع عدد من الشباب الراغبين في الهجرة غير الشرعية، ولم يصرّح أحدٌ منهم عن تلك الجهات التي تضغط عليهم.
وأكمل أحمد - وهو أحد الحاصلين على درجة الماجستير وأحد الذين حاولوا الهجرة -، موضحاً أن عملية الهجرة غير الشرعية تفيد العديد من العاملين في الدولة وإلا ما كانت تركت مفتوحة، ومن أسباب ذلك هي المعونة التي تصرفها الحكومة الإيطالية للشباب الذين تمت إعادتهم وترحيلهم إلى مصر بعد القبض عليهم والتي تعادل 40 ألف جنية كمنحة للشاب كي يقيم مشروعاً خاصاً به في بلده، “ولكن للأسف لا تصل هذه المعونات للشباب بل يدفع الشاب ثمن تذكرة الطائرة التي أعادته إلى جانب السباب والشتائم من قبل السفير أو أحد العاملين بالسفارة المصرية”، على حد قوله.
وصرح أحمد لـ “هافينغتون بوست عربي” أن أخاه يعمل كسمسار، حيث يتلخص عمله في الاتفاق مع أحد أصحاب المراكب الذي دائماً ما يكون لديه مركبٌ مهترىء لا يصلح للإبحار فيتفق مع السماسرة بجمع الشباب الراغبين بالهجرة على أن يحصل على نصف المبلغ المتفق عليه مع هؤلاء الشباب، وهو 45 ألف جنيه للشاب تذهب 20 ألفاً لصاحب المركب و25 للسمسار ومساعديه ممن يستقطبون الشباب والعاملين بأجهزة الدولة الذين يقومون بتجهيز الأوراق المطلوبة للشباب، ويقوم بتحميل 300 شخص على المركب التي تبلغ حمولتها 50 فرداً.
غالباً ما يكون صاحب المركب على علاقة بإحدى القيادات الموجودة في حرس الحدود المائي التي بدورها تسهل هذه العملية من خلال عدم تعرض القوات للمركب، أضف على ذلك أن صاحب المركب لا يهتم بالمركب إذا ما نجت أو غرقت لأنها بكل الأحوال كانت ستدخل التكهين فعلى الأقل هو استفاد منها.
يعلق أحمد “أجل، إنها مخاطرة ولكن وجهة نظر أخي وغيره من السماسرة هي أنهم يوفرون مستقبلاً وحياةً ومكاناً أفضل للشباب والأطفال، إن صح التعبير، لأن الكبار تتم إعادتهم ويقبل الأطفال فقط من هم دون الـ 18 عاماً. فبالنسبة لهم هم يوفرون للشباب فرصة عمل وحياة هم أنفسهم يحلمون بها لذا نجد أن كثيرين منهم قاموا بتهجير أخوتهم مع الرحلات التي يقومون بسمسرتها ومن وجهة نظرهم يفعلون خيراً، فنحن نعيش في إحدى أفقر المحافظات وأحد أفقر المراكز على مستوى مصر".
ويذكر أحمد أن لديه العديد من الأصدقاء الذين هاجروا والآن أحوالهم المادية والمعيشية أفضل منه كثيراً هو حامل درجة الماجستير الذي بالكاد يكفيه راتبه الشهري.
ندا على
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق