السبت، 25 يونيو 2016

د.حسين الخياط يكتب عن مأساة المرضى والأطباء والميزانية: أوجاع في قلب مستشفى أسيوط الجامعي


قصة لم أكن أتمنى أن أحكيها..


الزمان قبل منتصف الليل بقليل، والمكان مستشفى أسيوط الجامعى - العناية المركزة.

وصلت للعناية للاطمئنان على هشام، المريض الذى أجرينا له عملية قلب مفتوح لاستبدال صمام بالقلب صباح ذلك اليوم. الحمد لله وجدت المريض واعياً وعلاماته الحيوية ممتازة.

- «هشام أخبارك؟ حمدا لله على السلامة».

-«الحمد لله يا دكتور.. تسلم ايديكم».

أتحدث مع الممرضة المسؤولة عن حالته:

- «أكل وشرب كويس؟».

- «شرب بس ما أكلش!».

- «ليه؟».

- «معرفش إحنا بلغنا أهله يجيبوله ياكل بس محدش جاب حاجة!».

تعجبت جداً، فعادة الناس فى هذه البلاد أن من يجرى عملية بهذا الحجم -أو بأى حجم - فإن أهله وجيرانه والمعارف يغمرونه بألوان الطعام والشوربة والعصائر وغيره!.

موجهاً كلامى لهشام:

- «حد من أهلك موجود بره؟ ليه محدش جابلك أكل؟».

- «فيه إخواتى الصغيرين بره».

- «أصغر من كده..؟!» – مشيراً إليه.

- «أصل أنا والدى كبير سن وضرير، اللى قاعدين معايا إخواتى الصغار.. و.. وهما معهمش فلوس».

- «إزاى يعنى! طيب هما نفسهم ما أكلوش؟».

- «هما قبل كدا كانوا بياكلوا معايا التعيين (الوجبة التى يتم صرفها للمريض -فقط- فى المستشفى)».

- «طيب فين وجبة المستشفى النهارده؟» - موجهاً حديثى للممرضة.

- «ما أخدوهاش النهارده.. هوا كان فى العمليات وإخواته مستنينه بره العمليات فمستلموش الوجبة فوق فى القسم».

تركت المريض وخرجت من العناية، «مين اللى تبع هشام؟»، وجدت صغيرين أعمارهما ما بين 12 -16 سنة! أكملت طريقى للخارج مسرعا، ثم عدت بما أكرمنى الله به من عشاء للمريض وإخوته.

ووفقنا الله فى الأيام التى تلت ذلك لتوفير مبلغ له مع هيئة التمريض إن اضطر لشراء أدوية من خارج المستشفى، ولاستكمال العلاج بعد الخروج من المستشفى، فكانت المفاجأة أن المريض وإخوته رفضوا أى مبالغ مالية بشكل مباشر!.

لا أذكر أننى بكيت فى حياتى كما بكيت تلك الليلة.

■ ■ ■

نتيجة قوائم الانتظار الطويلة نادرا ما يتم عمل العملية لأى مريض بالمستشفى بشكل عام، وبقسمنا تحديداً، قبل أسبوع على الأقل من دخوله. لك أن تتخيل أن هذا المريض أقام أسبوعا كاملا فى المستشفى ومعه مرافق واحد على الأقل، يأكلان وجبة واحدة فقط فى الإفطار والغداء والعشاء دون أن يشعر أحد بذلك! ولا مدّ المريض يده لأحد، ولا حتى تكلم عن الموضوع.

هشام الذى يعمل «زوهرات»، وهى الكلمة التى يستخدمونها لمن يعمل بيده فى الأرض الزراعية أو فاعل فى المعمار بصورة مؤقتة، ويتقاضى أجره باليومية أو «اليوم بيومه»، يقيم فى المستشفى لمدة أسبوعين على الأقل، أى أنه بعيداً عن مصدر دخله طيلة هذه الفترة..

مشكلة صعيد مصر أنه ملىء بمثل حالة هشام، ليس فقط مريضا مصابا بروماتيزم القلب ويحتاج إلى رعاية طبية فائقة، وإنما متعفف يأبى أن ياخذ منك أى مساعدة بطريق مباشر. قد لا تشعر أصلا بأنه يواجه أى متاعب مالية، وسيرفض بشدة يدك الممدودة إليه ببعض النقود للمساعدة. تلك النوعية التى لن تراها على شاشات التلفاز، وتبكى بينما المذيع يعطيها ظرفا به مبلغ تبرع من أهل الخير.

هؤلاء البشر لا سبيل إلى مساعدتهم إلا عن طريق تحسين المكان الذى يقدم لهم هذه الخدمة الصحية حتى يجدوا فيه خدمة طبية دون عناء، ويجدوا أدوية متوفرة بالمستشفى، وقوائم انتظار لا تمتد لشهور، ومتابعة طبية تمنع تدهور حالتهم بعد مغادرة المستشفى نتيجة عدم قدرتهم على شراء العلاج.. يحتاجون إلى دعم لهذه الأماكن التى لا تظهر فى التلفاز إلا فى الأوقات العصيبة، كحادث قطار منفلوط الذى صدم أتوبيس مدرسة ابتدائية.

هذا المكان، مستشفيات جامعة أسيوط، أكبر صرح طبى فى الصعيد من جنوب الجيزة إلى أسوان، وأى مريض حالته مستعصية من المحافظات شمال وجنوب أسيوط يتم نقله إلى هناك وليس إلى أى مستشفى آخر بالصعيد. المستشفى توسع من مستشفى واحد من حوالى 10 سنوات، إلى أن أصبح يضم الآن المستشفى الرئيسى، ومستشفى أطفال، ومستشفى صحة المرأة، ومستشفى المسالك البولية، ومستشفى المخ والأعصاب، ومستشفى الراجحى للكبد، ومستشفى القلب، وقريبا مستشفى الإصابات والطوارئ. طاقة مستشفيات أسيوط حوالى 4200 سرير، منها 3000 سرير بالمستشفى الرئيسى، والباقى موزعة على المستشفيات التخصصية الأخرى.

رغم هذا العدد الضخم فإن نسبة الإشغال للمستشفيات تتعدى الـ 120% معظم أيام السنة، وقد تصل إلى 200% فى أقسام الإصابات والاستقبال فى حالات الحوادث والطوارئ كالإنفلونزا الموسمية والصدمات الحرارية. هذا يفسر لماذا قد ترى المرضى مفترشين للأرض، وتظهر حينها الاتهامات بالإهمال والتقصير، بينما الحقيقة أنه فعلياً لا توجد أسرة تكفى العدد الهائل من المرضى، والمستشفى لا يستطيع رفض استقبال الحالات ولا تحويله لمستشفى آخر لأن كثيراً من الحالات تكون قادمة كتحويل من مكان آخر، ولأن هناك تخصصات غير موجودة إطلاقاً إلا به على مستوى الصعيد.

رغم كل هذا، ورغم طبيعة المرضى الذين يخدمهم المستشفى (92% منهم أقسام مجانية، والباقى ينقسم إلى تأمين صحى وتعاقدات وخاصة) إلا أن نصيب مستشفى أسيوط الجامعى من التبرعات يصل إلى صفر فى كثير من الأحيان!.

على سبيل المثال فيما يخص عملى، أعرف أن عملية القلب المفتوح يتم إجراؤها على حساب التأمين الصحى أو بقرار على نفقة الدولة بتكلفة مبدئية 12 ألف جنيه، وحاليا توجد جمعيات وهيئات تتحمل هذه التكلفة وأكثر لغير القادرين، تستطيع أن ترى عدد إعلانات هذه الجمعيات يتزايد كل يوم على الشاشات، لكن ما يحدث عندنا هو أنه فى كثير من الأحيان يحضر المريض إلى المستشفى فى حاجة إلى عملية قلب مفتوح طارئة لا يمكن معها انتظار قرار العلاج على نفقة الدولة والذى يستغرق أسبوعين على أحسن تقدير، أو انتظار بحث الحالة الاجتماعية عن طريق إحدى الجمعيات الخيرية، فيتحمل المستشفى تكلفة العملية فوراً على نفقة صندوق علاج غير القادرين الذى يمول من التبرعات، التى قد يكون رصيدها فى هذه اللحظة صفرا، فيكون رد المستشفى: مفيش فلوس!.

لو قارنت الوضع بمستشفى خيرى يعتمد على التبرعات والإعلانات، ستجد أن مستشفى واحدا سعته 300 سرير استطاع أن يجمع تبرعات بمبلغ تعدى الـ 300 مليون جنيه مصرى، مما يعنى تقريبا ميزانية مليون جنيه للسرير، لذلك يستطيعون توفير خدمة صحية متميزة، ومنح بدل تفرغ مجزًٍ للأطباء والتمريض لا يدفعهم للتفكير فى ترك المستشفى للعمل بعيادة خاصة أو غيرها.

نظرة المجتمع إلى المستشفيات الحكومية والجامعية تنحصر فى أنها أماكن للإهمال والأطباء الصغار غير المكترثين بشىء، ولكن الجميع ينسون ويتناسون أن هذه الأماكن هى التى تقدم 90% من الخدمات الصحية المجانية فى البلاد، وأن الزحام وقلة الإمكانيات خارجة عن إمكانيات الأفراد العاملين، وأن المستشفيات والمراكز ذات الشكل البراق الجميل تستطيع المحافظة على ذلك المظهر عن طريق التمويل الوفير، وعن طريق عدم وجود بيروقراطية حكومية ووجود إدارة ونظام صارم، كما تستطيع قبول أو رفض أى حالة وفقا لبروتوكولات طبية خاصة بها قد تشمل التركيز على الحالات ذات نسب الشفاء الأعلى، أما من يحاول أن يطرح أى فكرة للتطوير بالمستشفيات الحكومية فلن يجد من اللوائح والمسؤولين من يسانده، فإما أن يستسلم، وإما أن يترك مصر إلى الخارج، وتستمر معاناة بلادنا من نزيف الأطباء والعقول.

■ ■ ■

لا أبرئ إدارة مستشفيات أسيوط، وانتمائى للمستشفى لا الإدارة، ولكنهم بذلوا ما بوسعهم، فقاموا بالإعلان عن حملة تبرعات للمستشفى، وتخصيص رقم لرسائل المحمول بـ5 جنيهات، إلا أنه لم يصل صندوق علاج المرضى غير القادرين إلا القليل جدا، حتى إن شركة المحمول أغلقت خدمة الرسائل لأنها لم تحقق

الـ target الذى يضمن لشركة الدعاية مكسباً جيداً!.

والواقع الحالى أن معظم التبرعات التى يتلقاها المستشفى تكون بجهود العاملين فيه، ومجموعات على موقع فيس بوك، أغلبها من شباب الصعيد بدوائر المستشفى، كمجموعات «إغاثة» و«كفالة» و«ساعة خير»، التى تبرعت العام الماضى بتكييفات لاستقبال طوارئ مستشفى الأطفال أثناء موجة الحر الشديد واستقبالنا حالات الأطفال الصدمات الحرارية، إلى جانب تبرعات المرضى القادرين الذين تماثلوا للشفاء.

ليست كل التبرعات التى يحتاجها المستشفى أجهزة وأسرة، بعض التبرعات كانت أمبولات أدوية مساعدة للقلب يصل سعر الواحد منها إلى 300 جنيه، وبعضها كان بسيطاً جداً، كشراء صابون وكحول لغسيل الأيدى لمنع انتشار العدوى (يتم صرف صابون وكحول طبعاً، لكن مع العدد الضخم لا يكفى حتى آخر اليوم).

حدث تواصل بين الإدارة وجمعية الأورمان، وقد قاموا مشكورين بالتبرع باستكمال تجهيزات مستشفى القلب وجراحاته بمبلغ 52 مليون جنيه على مراحل، تم تنفيذ المرحلة الأولى منها منذ شهر، وفى انتظار بقية المراحل لاستكمال المستشفى الذى تكلف 350 مليون جنيه حتى الآن، ويستوعب 250 سريرا و6 غرف عمليات و3 وحدات قسطرة، وتم بدء التشغيل التجريبى لها منذ 3 أشهر، فاستطعنا بفضل الله إجراء أكثر من 100 عملية قلب مفتوح كبار وأطفال، و60 حالة جراحة صدر ومنظار صدر، و120 حالة منظار شعبى ومرىء لاستخراج الأجسام الغريبة.

وأود أن أشير هنا إلى أن ميزانية المستشفيات الجامعية تأتى من وزارة التعليم العالى، وليس من وزارة الصحة، ولكن مع انخفاض ميزانية الصحة فى الموازنة القادمة يمكنك أن تتخيل حجم الضغط على المستشفيات الجامعية، ويمكن أن تتوقع أن الإنفاق الحكومى وحده لن يجدى نفعا فى هذه المناطق المحرومة من الاهتمام قبل الإنفاق.

تستطيع أيضا أن تضع نفسك موضع إدارة المستشفى التى تضطر لشراء الأهم فالمهم، فيذهب المريض الفقير إلى المستشفى فيطلبون منه شراء سرنجة، فيلعن المستشفى ومن فيه، ولا يعلم أن الإدارة اضطرت لتوزيع الميزانية بحيث تشترى العلاج والأدوية الحيوية وتقلل عدد السرنجات حتى يتكلف المريض سرنجة بـ 5 جنيهات، بدلاً من مضاد حيوى بـ 50 جنيها، ولا يعلم أيضاً أنه لو زاد عدد المرضى أكثر وأكثر، سنصل للحظة تعجز بها ميزانية المستشفى عن شراء العلاج أيضاً، ولن يجد المريض فى المستشفى إلا الطبيب!

من آخر المحاولات للحلول الذاتية التى حدثت هى مجموعة من الأطباء وأعضاء هيئة التدريس بجامعة أسيوط، وأنشأوا جمعية خيرية باسم «معاً لإنقاذ مرضى صعيد مصر»، برقم حساب 30000 بنك مصر فرع جامعة أسيوط، وتتلقى الجمعية حالياً التبرعات لتغطية الاحتياجات الملحة للمستشفى قدر الإمكان، والتى كان من أحدثها بالفترة الماضية تركيب أجهزة تكييف فى غرف العناية المركزة، بالإضافة لشراء بعض أجهزة التنفس الصناعى اللازمة لإنقاذ مرضى الإصابات والطوارئ.


نعم يوجد تقصير.. نعم توجد حالات يحدث معاها مشاكل.. لكن لا أحد يريد أن يساعد!

الكل يريد أن يكتب عن «فين ملائكة الرحمة»، وعن الدكاترة الجشعين وعياداتهم الخاصة و«دول بيرموا العيانين على الأرض». الواقع مؤلم وقاس، والواقع أن أغلب الميزانية تذهب لمصاريف التشغيل الأساسية والرواتب، بجانب ميزانيات التجديد والإحلال ناهيك عن التطوير ضعيفة.

لا توجد ميزانية لعمل إعلان يشبه «أنا نفسى أعيش»، حتى لو كان الواقع هنا هو «أنا نفسى آكل!».

* قسم جراحة القلب والصدر - جامعة أسيوط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البقاء لله .. وفاة مواطن واصابة عمه بطلقات نارية من ضابط بقرية الزاوية باسيوط وغضب الأهالى من ظلم الداخلية فى اسيوط

المواطن حسن مش إرهابى لكنه إنسان  كل جريمته انه مواطن غلبان خاف من حضرته فجرى راح ضربه بالنار ----------------------------------...