باقى الصور
هنَّ أمهاتُنا وجَدّاتُنا اللواتي عشن في مصر قبل نصف قرن، حين كان الزمانُ راقيًا، والشعبُ متحضرًا، والشوارعُ نظيفةً من القمامة التي تراها العين، والتي تسمعها الأذن. بنات مصر في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات الماضية، أيام الزمن الجميل. هنَّ رفيقات صبا فاتن حمامة، ومريم فخر الدين، وليلى طاهر، وماجدة، ونادية لطفي، وزبيدة ثروت، وسعاد حسني، وسواهن من جميلات مصر الأنيقات. ولو بحث كلٌّ منا في ألبومات العائلة القديمة، سيشاهدهن في الأم والخالة والجارة والجدة.
بوسع كلّ منا أن يسأل أمَّه أو خالته عن ذاك الأمس القريب (لأن نصف قرن على خط الزمان مثل لمحة خاطفة، لا سيما إن تعلّق الأمر ببلد عريق دَوَّن مدونتَه منذ خمسين قرنًا). سَلْ والدتك كيف كانت تسير بفستان قصير دون أن تسمع كلمة نابية، ودون أن يُنظر إليها نظرة لا تليق؟ ستخبرك بأن الناس كانوا مُتحضرين محترمين يسكنهم إيمانٌ جوهري حقيقيّ، لا مظهريّ ولا شكليّ، كما الآن.
عثرتُ على صفحة من مجلة مصرية قديمة بها صورة لثلاث فتيات من جامعة أسيوط يقفن أمام كلية الآداب، تمسك كل واحدة منهن بمقود دراجة بناتي (من دون العارضة الأمامية). تلك التي تسمح لفتاة بجونلة قصيرة بأن تقودها بحُريّة، دون الاضطرار لرفع ساقها للخلف، كما يفعل الرجل، في الصعود والنزول. مكتوب على الصورة العبارة التالية: "بنات الجامعة في أسيوط عملياتٌ أكثر من زميلاتهن في الجامعات الأخرى، تغلّبن على مشكلة المواصلات باستعمال الدراجات". انتهى التعليق المقتضب، ليفتح أمامنها محيطًا من التعليقات المتوقعة التي لا تخلو من مرارة، واندهاش.
الصورة "كانت" طبيعية وبسيطة في زمن التقاطها قبل خمسين سنة، و"غدت" شديدة الغرابة والإثارة اليوم، بعد مرور نصف قرن! قد يبدو الأمر معقولاً لو تكلمنا عن صورة "راديو خشبي ضخم" تلتفُّ حوله أسرة ستينية لتُنصتَ، في الخميس الأول من كل شهر، إلى أغنية لأم كلثوم، فنقول: "يا حرام، مكنش عندهم تليفزيون، ولا انترنت، كيف كانوا يعيشون؟!" لكن من العجيب أن نقول: "ياه، البنت كانت بتركب بيسكليت، وتلبس فستان قصير دون خوف من تحرّش أو سخرية، والنهارده لو ركبت دراجة يزفّها المارّةُ كأنما ارتكبت فاحشة؟!" هنا، مَن عساهُ يقول لمَن: "يا حــــــــراااااام!"
الصورةُ لا تحكي مشهدًا "عاديًا" اقتنصته عدسةٌ لتسجل لحظة "عادية" مرّت في حياة فتيات "عاديات"، بل تحكي ثقافة مجتمع بأسره كان متحضرًا ثم أخذ في التراجع والانحطاط حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من تدنّي خُلقي وبصريّ وسمعيّ وسلوكيّ! الصورة تحكي عشرات المشاهد التي مرّت قبل هذه اللقطة العادية وبعدها. طالبةٌ جامعية من أسرة متوسطة، ترتدي جيبتها وبلوزتها وتمشط شعرها على عجلٍ، وتختطف حقيبتها الدراسية، وتنزل لتركب دراجتها وتنطلق إلى الجامعة، تدخل المدرج، تُنصت إلى المحاضرات، ثم تعود إلى بيتها بالبيسكليت دون أن يزعجها مخلوق. أمها لم تقل لها في الصباح: "خدي بالك من التحرش"، لأنها لو قالت، سترد البنت بعجب: "يعني ايه تحرش؟!"
تخيلوا معي كم فتاةً مصرية راهنة بوسعها أن تعيش يومًا "عاديًّا" كالذي عاشته جدتها في الستينيات؟
نشرتُ الصورة على صفحتي وكتبت: "بنات أسيوط في الجامعة في الخمسينيات، ماذا ترون فيهن؟ وماذا ترون في بنات اليوم؟ انتبهوا، فأولئك هن أمهاتكم وجداتكم."
مئات التعليقات جميعُها أشاد بجمال الصورة وبراءة الفتيات وأناقتهن واحتشامهن. تمنّي شبابُ اليوم لو أنهم وُلدوا في ذاك الزمن المحترم. وتمنّت البناتُ النجاة من سخافات المترو والباص، بركوب الدراجة دون أن يُنظَر إليهن نظرةً غير لائقة، كأنهن بواغٍ أو قليلات أدب!
عن نفسي، ومنذ سنوات طوال، أقود دراجتي في المشاوير القريبة، غير عابئة بما، ومَن حولي. وبعد شهور قليلة من دهشة الجيران، امتلأ الحيُّ بالدراجات الحريمي، وانقلب مستنكرو الأمس إلى متحمسي اليوم. حلّت الصينُ مشكلة الازدحام لديها بالدراجات التي يتساوى فوقها الوزير بالغفير، والرجل بالمرأة، والعجوز بالطفل. وفي أوروبا الوادعة المنظمة، تجد عجوزًا جميلة في السبعين، فوق دراجتها. تمسك المقودَ بيدٍ، وبالأخرى تحمل مظلتَها لتحميها من الأمطار، وفي سلة الدراجة، حقيبتُها. ذاك مشهدٌ مألوف في هولندا وسائر الدول التي احترمت الإنسان، وآمنت أن المرأة إنسانٌ، قبل أن تكون امرأة.
هذا رابط الصورة لتسعدوا بها معي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق