الشباب وكبار السن فقط هم من شاهدوا آخر كارثة تجتاح منازلهم وأراضيهم الزراعية، كان ذلك فى عام 1994 في محافظة أسيوط. الآن الفرصة أتيحت أمام جيل جديد من الأطفال، بالإضافة إلى الخبرة السابقة المكتسبة من السيول الأخيرة قبل 20 عامًا. فقد فوجئ أهالى 15 عزبة تتبع 3 قرى من قرى أسيوط، يوم الأحد الماضى، بأن منازلهم وأراضيهم دمرت تمامًا، وهذه المرة كسابقتها لا يعرفون كيف ومن ومتى سيحصلون على تعويض صغير. فى الوقت الذى أرجع فيه مسؤول أمني بالمحافظة، رفض ذكر اسمه، لأنه غير مخول بالتصريحات الصحفية، سبب هذه الكارثة إلى عيب فني في أعمال شركة المقاولات المكلفة ببناء سدود فوق منطقة وادي الشيح، الأمر الذي أدى إلى انهيار جزء من هذه السدود وإحداث فتحة بعرض 30 مترا، ساهمت في غرق البيوت والأراضي الزراعية المنخفضة في منطقة الوادي وأسفل الجبل، وتكبد سكان هذه المنطقة خسائر مادية كبيرة. وكان هناك مواطنون
يستمتعون بدفء بيوتهم في ليلة باردة، أفاقت حنان أبوالليل هي وأبناؤها الخمسة على صوت مياه السيول، التي غمرت منزلها الفقير في إحدى القرى التابعة لمركز البداري. فرت حنان مسرعة تحمل صغارها وتدفع بهم إلى الشارع هربا إلى منزل جارتها في الطابق العلوى. تقول حنان: «خفت على العيال أحسن حد منهم يغرق في مية السيل بعد ما غرق البيت ووصل لحد السراير والكنب اللى نايمين عليهم، المية وصلت كمان لحد فيش الكهربا، فخفت بصراحة يحصل ماس كهربائي ونموت متكهربين». ثلاثة أيام قضتها حنان تحاول لملمة ما تبقى من «عفش» منزلها من حصير وبطاطين. «مش بس عفش البيت اللي باظ، ده كمان أساس البيت نشعت فيه المية، ومتوقعين في أى لحظة إنه يقع فوق دماغنا» تقول الأم. مضيفة: «البيت فيه 4 أسر كل أسرة مكونة من 6 أفراد على الأقل، ومع ذلك ماجلناش حد من المحافظة ولا المركز علشان ينزح المية اللى مغرقة البيت وينقذ الـ30 فرد دول من الهلاك، سيارات المحافظة اللي بتنزح المية مابتدخلش البيوت الغرقانة، وكل همها إنها تخلص المياه من الشوارع، أما البيوت الغرقانة لحد دلوقتي مجاش عليها الدور». سيارتان لنزح المياه يتجمع حولهما عشرات الأشخاص فرحا بأن مياه السيول التي أطاحت بهم من دورهم في قرية العتمانية بعزبة سالم سينتصرون عليها، أملا في أن تختفي آخر قطراتها خلال الأيام المقبلة. وعلى الرغم من أن محافظ أسيوط زار هذه القرية مرتين، خلال الأيام الماضية، إلا أن سيارات نزح المياه هذه لم تكن تابعة للمحافظة، بل دفع تكاليفها سكان القرية المتضررون. يقول ناجح سالم: «إحنا أول جهة ضربتها السيول، المحافظ جه بنفسه يومين ورا بعض، وفي يوم منهم مشى من هنا (عزبة سالم) الساعة 4 فجرا، ووعدنا إنه هيعمل حصر لأي خسارة مادية ولكل شىء فقدناه بسبب السيول». يضيف: «صحيح لم يأت أي مسؤول حتى الآن لمعاينة حالنا أو حصر ما خسرناه، لكننا سعداء لإن دى أول مرة نشوف فيها محافظ أو ييجى منطقتنا مسؤول كبير بالشكل ده». يتابع ببساطة: «رغم الخساير، إلا أننا سعداء بتقديره لنا». وليد عبده، شاب عشريني، كان يقف وسط المياه ولا يظهر منه سوى نصفه العلوي، يقول وهو يضع يده على سيارة نزح المياه وكأنه يحاول أن يمنحها سرعة إضافية لنزح المياه في وقت أقل: «إحنا جايبين العربية دى على حسابنا الخاص، الساعة بـ100 جنيه، بس إحنا عايزين نلحق بيوتنا قبل ما تبوش من المية». يضيف وهو يتذكر الساعات الأولى من اندفاع مياه السيول داخل منزله: «السيول كانت متواصلة لمدة 48 ساعة بقوة رهيبة، لدرجة إنها دمرت بيتنا وضاع عفشنا، ولكننا قدرنا ننقذ المواشي والحمد لله». وفي منطقة العقايلة بالمنطقة الغربية من مركز البداري، يتحسر خالد سهيل، 52 عاما، على ما فقده من أثاث ومزروعات: «محدش من المسؤولين حضر علشان يعاين الكارثة في القرية بتاعتنا»، منتقدا محافظ أسيوط قائلا: «المحافظ طلع في التليفزيون يقول أنا جهزت مساكن للناس والناس هي اللى مش راضية تروحها علشان عاداتهم وتقاليدهم تمنعهم من أن يتركوا قريتهم، والكلام دا محصلش، ولم يعرض علينا أحد أي شىء، المحافظ زار حدود قرية العتمانية علشان عربيته ماتتوسخش». عادل عبدالقادر، 45 عاما، يوضح أن المحافظة أرسلت عربات كسح مياه، لكنها للشوارع فقط ولا تدخل لتنزح المياه من داخل البيوت الغارقة: «إحنا آخر هم الحكومة ومفيش حد بيسأل فينا، وعندما طلبنا من المسؤولين سيارات نزح لإنقاذ منازلنا، كان ردهم إنهم سينزحون المياه من الشوارع فقط وليس من المنازل، غير أن سائق السيارة يطالبنا بنقود نظير عمله، وعندما رفضنا في أول مرة ذهب ولم يعد، لذا أصبحنا نضطر لدفع النقود حتى تعود حياتنا آمنة مثلما كانت». أمام منزل دمرته وحطمته السيول تجلس سميرة زعمان، 60 عاما، واضعة يدها على خدها، قائلة: «ليس لديّ مكان لأعيش فيه أنا وزوجي المريض، وحتى عفش البيت عام على وش المية ولا أستطيع إنقاذه لأن نصف المنزل تهدم والنصف الآخر آيل للسقوط في أي لحظة». تتابع: «خسرت كل شىء.. بيتي لم يغرق فقط، بل ماتت الماشية التي أربيها»، تختتم كلامها: «مش عارفة أعمل إيه أو نعيش منين؟». رقيات محمد، 35 عاما، تقف في حيرة من أمرها لا تعلم ماذا تفعل في مأساتها، فهي أرملة وأم لـ5 أطفال، خسرت منزلها تماما بعد أن أغرقته المياه وهدمت سقفه، كما خسرت مصدر رزقها الوحيد وهو المواشى والطيور. تقول: «أنا وأولادي بننام عند الجيران ومش عارفة هفضل كده لحد إمتى، كل اللي بتمناه من الدنيا إنهم يرجعولى سقف بيتي تاني». تضيف: «حضر مسؤول من الشؤون الاجتماعية لتفحص المكان ولكن من الخارج فقط، وعندما طلبت منه أن يأتي معي لمنزلي ليرى كيف تدمر، ويعاين الطيور ورأس الماشية التى ماتت كان رده قاسيا، حيث قال (أنا ما باروحش لحد، تعالى إعملى شكوى وإحنا ننظر فيها بعدين)». صوته راح نتيجة الصراخ على أثاث منزله. يجلس هانى بخيت أحمد، 31 عاما، يعدد خسائره: «حجرتان وصالة مسقوفة من البوص، فى واحدة حجرة النوم والثلاجة والغسالة، والحجرة الثانية أخزن فيها الغلال التى أتاجر فيها، وأبيعها لأهل القرية، لسه متجوز من شهر واحد بس وكل عفش بيتى الجديد شوفته قدام عينيه عايم على وش المية، حتى الغلال اللى كنت بتاجر فيها وبتساعدنى على المعيشة راحت كلها تحت المياه وخسرت الجلد والسقط». يضيف: «البيوت كلها جديدة ومبنية من الطوب والأسمنت، لإن معظم الناس هنا كانت بانيه بيوتها من الطين ولما جه سيل 1994 ووقعت البيوت الناس خافت يتكرر تانى وراحوا أخدوا قروض من بنك التنمية والائتمان الزراعى وبنوا بيوتهم، ولحد دلوقتى لسه بيسددوا فى القرض». عواطف فتحى، تقول: «عشت أنا وزوجي وعيالي الأربعة في حجرة وصالة لأكثر من عشر سنين وفضلنا صابرين، حطينا كل ما نملك في قطعة أرض دفعنا فيها 50 ألف جنيه وبنينا أوضتين علشان يضللوا على أسرتي، إلا أن مياه السيل هدمت البيت ووقعت الحيطان وبقينا مرميين في الشارع». بهية نعمان امرأة سبعينية جلست وسط كومة من الصناديق الكرتونية تحتوي على قطع غيار أجهزة كمبيوتر وبعض الأدوات الكهربائية تعود لابنها جميل أيوب الذي يتاجر فيها، تقول: «ابني علشان يعمل التجارة دي فضل يشتغل 13 سنة في الأردن، وحط في المشروع دا تحويشة عمره». تضيف: «مزعلتش على عفش بيتي زي ما زعلت على شقا ابني وغربته طول السنين اللي فاتت، كنا حاطين البضاعة في أوضة من أوض البيت اللي كان عملها مخزن، وصحينا من النوم لقينا المية مغرقة البيت كله».
هبه عبد الحميد
سمر النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق