جمال عبد الناصر حسين هو قائد
وزعيم ثورة 23 يوليه 1952 التي أنهت عهد الملكية في مصر، وثاني رؤساءها بعد
الرئيس محمد نجيب، لعب دورًا بارزًا في تشجيع عدد من الثورات في عدد من
الدول خاصة في الوطن العربي، ودورًا قياديًا في تأسيس منظمة التحرير
الفلسطينية في سنة 1964 وحركة عدم الانحياز الدولية.
عُرف عن عبد الناصر قوميته وانتماؤه للوطن العربي، بل أصبحت أفكاره مذهبَا سياسيًا سُمي بـ "الناصرية" مما جعله يكتسب الكثير من المؤيدين في الوطن العربي خلال فترة الخمسينيات والستينيات، وبرز اسمه ضمن أهم الشخصيات السياسية في الوطن العربي وفي العالم النامي للقرن العشرين والتي أثرت تأثيرًا كبيرًا في المسار السياسي العالمي، وهو من أصول "صعيدية" فكان به حمية الرجل الغيور المُتغلب عليه عادات وتقاليد المُجتمع المصري الطيب العريق.
وعبد الناصر هو أول رئيس جمهورية مصري مُنتخب للبلاد بعد حُكم الملك فاروق وزعيم ثورة 23 يوليو 1952، والتي من أهم نتائجها هي خلع الملك فاروق عن الحُكم، وبدء عهد جديد من التمدن في مصر والاهتمام بالقومية العربية والتي تضمنت فترة قصيرة من الوحدة بين مصر وسوريا ما بين سنتي 1958 و 1961، والتي عُرفت باسم "الجمهورية العربية المتحدة"، وكان رائدًا لحركات التحرير في الشرق الأوسط والدول الأفريقية.
وبالرغم من أن صورة جمال عبد الناصر كقائد اهتزت إبان "نكسة 67" إلا أنه أستطاع إستعادتها جزئيًا من خلال حرب الاستنزاف التي أعقبت النكسة وسبقت حرب 6 أكتوبر1973 ، وبغض النظر عن تأييد أو انتقادات موجهة له ولطريقة حُكمه، إلا أنه لا يزال يُنظر إليه بشكل عام كرمز للكرامة العربية والحرية من الاستعمار والإملاءات الخارجية.
وبالرجوع إلى التاريخ نجد أن تاريخ عبد الناصر منذ نعومة أظافره كان يتمتع بالحس الوطني والثورة بداخله منذ التحاقه بالمدرسة وحتى تخرجه من الكلية الحربية، فكل يوم من حياة عبد الناصر تحتاج للقراءة المُتأنية، ولكن لضيق المساحة والوقت اختزلنا هذه الرحلة الطويلة من الكفاح في سطور يسهل استيعابها.
عبد الناصر فى المرحلة الابتدائيةالتحق جمال عبد الناصر بروضة الأطفال بمحرم بك بالإسكندرية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية بالخطاطبة في عامي 1923، 1924، ثم التحق فى عام 1925 بمدرسة النحاسين الابتدائية بالجمالية بالقاهرة، وأقام عند عمه خليل حسين في حي شعبي لمدة ثلاث سنوات، وكان جمال يُسافر لزيارة أسرته بالخطاطبة في العطلات المدرسية، وحينما عاد في الإجازة الصيفية خلال عام 1926علم أن والدته قد توفيت قبل ذلك بأسابيع لعدم وجود الشجاعة عند أحد لإبلاغه بوفاتها، ولكنه اكتشف ذلك بنفسه بطريقة هزت كيانه - كما ذكر لـ "دافيد مورجان" مندوب صحيفة "الصنداى تايمز" - وحينها قال له: "لقد كان فقد أمي في حد ذاته أمرًا مُحزنًا للغاية، أما فقدها بهذه الطريقة فقد كان صدمة تركت فيَّ شعورًا لا يمحوه الزمن .. وقد جعلتني آلامي وأحزاني الخاصة في تلك الفترة أجد مضضًا بالغًا في إنزال الآلام والأحزان بالغير في مُستقبل السنين"، وبعد أن أتم جمال السنة الثالثة في مدرسة النحاسين بالقاهرة، أرسله والده في صيف 1928 عند جده لوالدته فقضى السنة الرابعة الابتدائية في مدرسة العطارين بالإسكندرية.
الثانوية .. مرحلة تكوين وجدان:
التحق عبد الناصر في عام 1929 بالقسم الداخلي في مدرسة حلوان الثانوية وقضى بها عامًا واحدًا، ثم نقل في العام التالي إلى مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية بعد أن انتقل والده إلى العمل بـ "مصلحة البوسطة" هناك، وفى تلك الفترة تكون وجدان جمال عبد الناصر القومي؛ ففي عام 1930 استصدرت وزارة "إسماعيل صدقي" مرسومًا ملكيًا بإلغاء دستور 1923 فثارت مظاهرات الطلبة تهتف بسقوط الاستعمار وبعودة الدستور.
ويذكر عبد الناصر - في حديثه مع دافيد مورجان مندوب صحيفة الصنداى تايمز 18/6/1962 - عن أول مظاهرة اشترك فيها: "كنت أعبر ميدان المنشية في الإسكندرية حين وجدت اشتباكًا بين مظاهرة لبعض التلاميذ وبين قوات من البوليس، ولم أتردد في تقرير موقفي؛ فلقد انضممت على الفور إلى المتظاهرين، دون أن أعرف أي شئ عن السبب الذي كانوا يتظاهرون من أجله، ولقد شعرت أنني في غير حاجة إلى سؤال؛ لقد رأيت أفراداً من الجماهير في صدام مع السلطة، واتخذت موقفي دون تردد في الجانب المُعادى للسلطة".
ومرت لحظات سيطرت فيها المظاهرة على الموقف، لكن سرعان ما جاءت إلى المكان الإمدادات؛ حمولة لوريين من رجال البوليس لتعزيز القوة، وهجمت علينا جماعتهم، وإني لأذكر أنى - في محاولة يائسة - ألقيت حجراً، لكنهم أدركونا في لمح البصر، وحاولت أن أهرب، لكني حين التفت هوت على رأسي عصا من عصى البوليس، تلتها ضربة ثانية حين سقطت، ثم شحنت إلى الحجز والدم يسيل من رأسي مع عدد من الطلبة الذين لم يستطيعوا الإفلات بالسرعة الكافية، ولما كنت في قسم البوليس، وأخذوا يعالجون جراح رأسي؛ سألت عن سبب المظاهرة، فعرفت أنها مظاهرة نظمتها "جماعة مصر الفتاة" في ذلك الوقت للاحتجاج على سياسة الحكومة، وكانت النتيجة أنني دخلت السجن تلميذاً متحمساً، وخرجت منه مشحوناً بطاقة من الغضب".
ويعود جمال إلى هذه الفترة من حياته في خطاب له بميدان المنشية بالإسكندرية في 26/10/1954 ليصف أحاسيسه في تلك المظاهرة وما تركته من آثار في نفسه: "حينما بدأت في الكلام اليوم في ميدان المنشية. سرح بي الخاطر إلى الماضي البعيد ... وتذكرت كفاح الإسكندرية وأنا شاب صغير وتذكرت في هذا الوقت وأنا اشترك مع أبناء الإسكندرية، وأنا أهتف لأول مرة في حياتي باسم الحرية وباسم الكرامة، وباسم مصر... أطلقت علينا طلقات الاستعمار وأعوان الاستعمار فمات من مات وجُرح من جُرح، ولكن خرج من بين هؤلاء الناس شاب صغير شعر بالحرية وأحس بطعم الحرية، وآلى على نفسه أن يُجاهد وأن يُكافح وأن يُقاتل في سبيل الحرية التي كان يهتف بها ولا يعلم معناها؛ لأنه كان يشعر بها في نفسه، وكان يشعر بها في روحه وكان يشعر بها في دمه". لقد كانت تلك الفترة بالإسكندرية مرحلة تحول في حياة الطالب جمال من متظاهر إلى ثائر تأثر بحالة الغليان التي كانت تعانى منها مصر بسبب تحكم الاستعمار وإلغاء الدستور.
"فولتير" و "يوليوس قيصر"على الرغم من شعور عبد الناصر بتحكم الاستعمار وإلغاء الدستور وتضييق المسئولين بالمدرسة بنشاطه والتنبيه على والده بذلك، وإرساله والده إلى القاهرة ليلتحق بمدرسة النهضة الثانوية بحي الظاهر بالقاهرة في عام 1933، إلا أنه استمر في نشاطه السياسي فأصبح رئيس اتحاد مدارس النهضة الثانوية.
وفى تلك الفترة ظهر شغفه بالقراءة في التاريخ والموضوعات الوطنية فقرأ عن الثورة الفرنسية وعن "روسو" و"فولتير" وكتب مقالة بعنوان "فولتير رجل الحرية" نشرها بمجلة المدرسة. كما قرأ عن "نابليون" و"الإسكندر" و"يوليوس قيصر" و"غاندى" وقرأ رواية البؤساء لـ "فيكتور هيوجو" وقصة مدينتين لـ "شارلز ديكنز".
كذلك اهتم بالإنتاج الأدبي العربي فكان مُعجباً بأشعار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وقرأ عن سيرة النبي محمد وعن أبطال الإسلام وكذلك عن مصطفى كامل، كما قرأ مسرحيات وروايات توفيق الحكيم خصوصًا رواية عودة الروح التي تتحدث عن ضرورة ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم ودفعهم نحو النضال في سبيل الحرية والبعث الوطني، وفي عام 1935 في حفل مدرسة النهضة الثانوية لعب الطالب جمال عبد الناصر دور "يوليوس قيصر" بطل تحرير الجماهير في مسرحية "شكسبير" في حضور وزير المعارف في ذلك الوقت.
وفي أعقاب إعلان رفض بريطانيا لعودة الحياة الدستورية في 9 نوفمبر/تشرين الأول 1935، اندلعت مظاهرات الطلبة والعمال في البلاد، وقاد جمال عبد الناصر في 13 نوفمبر/تشرين الأول 1935 مظاهرة من تلاميذ المدارس الثانوية واجهتها قوة من البوليس الإنجليزي فأصيب جمال بجرح في جبينه سببته رصاصة مزقت الجلد ولكنها لم تنفذ إلى الرأس، وأسرع به زملاؤه إلى دار جريدة الجهاد التي تصادف وقوع الحادث بجوارها ونشر اسمه في العدد الذي صدر صباح اليوم التالي بين أسماء الجرحى "مجلة الجهاد 1935".
وتتجلى آثار أحداث تلك الفترة في نفسية عبد الناصر حينما قال في كلمة له في جامعة القاهرة في 15 نوفمبر 1952: "وقد تركت إصابتي أثراً عزيزاً لا يزال يعلو وجهي فيذكرني كل يوم بالواجب الوطني المُلقى على كاهلي كفرد من أبناء هذا الوطن العزيز .. وفى هذا اليوم وقع صريع الظلم والاحتلال المرحوم عبد المجيد مرسي فأنساني ما أنا مُصاب به، ورسخ في نفسي أن علىِّ واجبًا أفنى في سبيله أو أكون أحد العاملين في تحقيقه حتى يتحقق؛ وهذا الواجب هو تحرير الوطن من الاستعمار، وتحقيق سيادة الشعب. وتوالى بعد ذلك سقوط الشهداء صرعى؛ فازداد إيماني بالعمل على تحقيق حرية مصر".
وتحت الضغط الشعبي وخاصة من جانب الطلبة والعمال صدر مرسوم ملكي في 12 ديسمبر/كانون الأول 1935 بعودة دستور 1923، وقد انضم جمال في هذا الوقت إلى وفود الطلبة التي كانت تسعى إلى بيوت الزعماء تطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر، وقد تألفت الجبهة الوطنية سنة 1936 بالفعل على أثر هذه الجهود.
فصله من المدرسةوكان من نتيجة النشاط السياسي المكثف لجمال عبد الناصر في هذه الفترة الذي رصدته تقارير البوليس أن قررت مدرسة النهضة فصله بتهمة تحريضه الطلبة على الثورة، إلا أن زملائه ثاروا وأعلنوا الإضراب العام وهددوا بحرق المدرسة فتراجع ناظر المدرسة في قراره.
ومنذ المظاهرة الأولى التي اشترك فيها جمال عبد الناصر بالإسكندرية شغلت السياسة كل وقته، وتجول بين التيارات السياسية التي كانت موجودة في هذا الوقت فانضم إلى "مصر الفتاة" على مدى عامين، ثم انصرف عنها بعد أن اكتشف أنها لا تحقق شيئاً، كما كانت له اتصالات مُتعددة بالإخوان المسلمين إلا أنه قد عزف عن الانضمام لأي من الجماعات أو الأحزاب القائمة لأنه لم يقتنع بجدوى أياً منها، "فلم يكن هناك حزب مثالي يضم جميع العناصر لتحقيق الأهداف الوطنية" .. كذلك فإنه وهو طالب في المرحلة الثانوية بدأ الوعي العربي يتسلل إلى تفكيره، فكان يخرج مع زملائه كل عام في الثاني من شهر نوفمبر احتجاجًا على وعد "بلفور" الذي منحت به بريطانيا لليهود وطنًا في فلسطين على حساب أصحابه الشرعيين.
لقد وضع جمال عبد الناصر أمامه هدفًا واضحًا في الكلية الحربية وهو "أن يُصبح ضابطاً ذا كفاية، وأن يكتسب المعرفة والصفات التي تسمح له بأن يُصبح قائدًا"، وفعلاً أصبح "رئيس فريق"، وأسندت إليه منذ أوائل 1938 مهمة تأهيل الطلبة المُستجدين الذين كان من بينهم عبد الحكيم عامر، وطوال فترة الكلية لم يوقع على جمال أي جزاء، كما رُقى إلى رتبة "أومباشى طالب".
تخرج جمال عبد الناصر من الكلية الحربية بعد مرور 17 شهرًا، أي في يوليه/تموز 1938، فقد جرى استعجال تخريج دفعات الضباط في ذلك الوقت لتوفير عدد كافي من الضباط المصريين لسد الفراغ الذي تركه انتقال القوات البريطانية إلى منطقة قناة السويس.
التحق جمال عبد الناصر فور تخرجه بسلاح المشاة ونقل إلى منقباد في الصعيد، وقد أتاحت له إقامته هناك أن ينظر بمنظار جديد إلى أوضاع الفلاحين وبؤسهم، وقد التقى في منقباد بكل من زكريا محيى الدين وأنور السادات، وفى عام 1939 طلب عبد الناصر نقله إلى السودان، فخدم في الخرطوم وفى جبل الأولياء، وهناك قابل زكريا محيى الدين وعبد الحكيم عامر، وفى مايو/آيار 1940 رقى إلى رتبة الملازم أول.
وواصل عبد الناصر تقدمه في الحياة العسكرية إلى أن رُقى إلى رتبة اليوزباشى (نقيب) في 9 سبتمبر/أيلول 1942. وفى 7 فبراير/شباط 1943 عُين مدرسًا بالكلية الحربية. ومن قائمة مُطالعاته في هذه الفترة يتضح أنه قرأ لكبار المؤلفين العسكريين من أمثال "ليدل هارت" و"كلاوزفيتز"، كما قرأ مؤلفات الساسة والكتاب السياسيين مثل "كرومويل" و"تشرشل". وفى هذه الفترة كان جمال عبد الناصر يعد العدة للالتحاق بمدرسة أركان حرب.
وفى 29 يونيه 1944 تزوج جمال عبد الناصر من تحية محمد كاظم - ابنة تاجر من رعايا إيران - كان قد تعرف على عائلتها عن طريق عمه خليل حسين، وقد أنجب ابنتيه هدى ومنى وثلاثة أبناء هم خالد وعبد الحميد وعبد الحكيم. لعبت تحية دورًا هامًا في حياته خاصة في مرحلة الإعداد للثورة واستكمال خلايا تنظيم الضباط الأحرار، فقد تحملت أعباء أسرته الصغيرة - هدى ومنى - عندما كان في حرب فلسطين، كما ساعدته في إخفاء السلاح حين كان يدرب الفدائيين المصريين للعمل ضد القاعدة البريطانية في قناة السويس في 1951، 1952.
تنظيم الضباط الأحرار:شهد عام 1945 انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية حركة الضباط الأحرار، ويقول جمال عبد الناصر في حديثة إلى "دافيد مورجان": "وقد ركزت حتى 1948 على تأليف نواة من الناس الذين بلغ استياؤهم من مجرى الأمور في مصر مبلغ استيائي، والذين توفرت لديهم الشجاعة الكافية والتصميم الكافي للإقدام على التغيير اللازم. وكنا يومئذ جماعة صغيرة من الأصدقاء المخلصين نحاول أن نخرج مثلنا العُليا العامة في هدف مُشترك وفى خطة مشتركة".
وعقب صدور قرار تقسيم فلسطين في سبتمبر 1947 عقد الضباط الأحرار اجتماعًا واعتبروا أن اللحظة جاءت للدفاع عن حقوق العرب ضد هذا الانتهاك للكرامة الإنسانية والعدالة الدولية، واستقر رأيهم على مُساعدة المقاومة في فلسطين.
وقد جُرح جمال عبد الناصر مرتين أثناء حرب فلسطين ونقل إلى المستشفى. ونظرًا للدور المُتميز الذي قام به خلال المعركة فإنه مُنح نيشان "النجمة العسكرية" في عام 1949.
وبعد عودته من فلسطين عين جمال عبد الناصر مدرسًا في كلية أركان حرب التي كان قد نجح في امتحانها بتفوق في 12 مايو/آيار 1948. وبدأ من جديد نشاط الضباط الأحرار وتألفت لجنة تنفيذية بقيادة جمال عبد الناصر، وتضم [كمال الدين حسين/عبد الحكيم عامر/حسين إبراهيم/صلاح سالم/عبد اللطيف البغدادي/خالد محيى الدين/أنور السادات/حسين الشافعي/زكريا محيى الدين/جمال سالم] وهى اللجنة التي أصبحت مجلس الثورة فيما بعد عام 1950، 1951.
وفى 8 مايو 1951 رُقى جمال عبد الناصر إلى رتبة البكباشى (مُقدم) وفى نفس العام اشترك مع رفاقه من الضباط الأحرار سرًا في حرب الفدائيين ضد القوات البريطانية في منطقة القناة التي استمرت حتى بداية 1952، وذلك بتدريب المتطوعين وتوريد السلاح الذي كان يتم في إطار الدعوى للكفاح المُسلح من جانب الشباب من كافة الاتجاهات السياسية والذي كان يتم خارج الإطار الحكومي.
ثم حدث حريق القاهرة في 26 يناير/كانون الثاني 1952 بعد اندلاع المظاهرات في القاهرة احتجاجًا على مذبحة رجال البوليس بالإسماعيلية التي ارتكبتها القوات العسكرية البريطانية في اليوم السابق، والتي قتل فيها 46 شرطيًا وجُرح 72 آخرين. لقد أشعلت الحرائق في القاهرة ولم تتخذ السلطات أي إجراء ولم تصدر الأوامر للجيش بالنزول إلى العاصمة إلا في العصر بعد أن دمرت النار 400 مبنى، وتركت 12 ألف شخص بلا مأوى، وقد بلغت الخسائر 22 مليون جنيهًا.
وفى ذلك الوقت كان يجرى صراعًا سافرًا بين الضباط الأحرار وبين الملك فاروق فيما عُرف بأزمة انتخابات نادي ضباط الجيش. حيث رشح الملك اللواء حسين سرى عامر المكروه من ضباط الجيش ليرأس اللجنة التنفيذية للنادي، وقرر الضباط الأحرار أن يقدموا قائمة مُرشحيهم وعلى رأسهم اللواء محمد نجيب للرئاسة، وقد تم انتخابه بأغلبية كبرى وبرغم إلغاء الانتخاب بتعليمات من الملك شخصيًا، إلا أنه كان قد ثبت للضباط الأحرار أن الجيش معهم يؤيدهم ضد الملك، فقرر جمال عبد الناصر - رئيس الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار - تقديم موعد الثورة التي كان مُحددًا لها قبل ذلك عام 1955، وتحرك الجيش ليلة 23 يوليو/تموز 1952 وتم احتلال مبنى قيادة الجيش بكوبري القبة وإلقاء القبض على قادة الجيش الذين كانوا مُجتمعين لبحث مواجهة حركة الضباط الأحرار بعد أن تسرب خبر عنها .
وبعد نجاح حركة الجيش قدم محمد نجيب على أنه قائد الثورة - وكان الضباط الأحرار قد فاتحوه قبلها بشهرين في احتمال انضمامه إليهم إذا ما نجحت المحاولة - إلا أن السلطة الفعلية كانت في يد مجلس قيادة الثورة الذي كان يرأسه جمال عبد الناصر حتى 25 أغسطس/آب 1952 عندما صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بضم محمد نجيب إلى عضوية المجلس وأسندت إليه رئاسته بعد أن تنازل له عنها جمال عبد الناصر.
وتضمن قرار مجلس قيادة الثورة تعيين جمال عبد الناصر رئيسًا لمجلس قيادة الثورة: وفي فبراير/شباط 1954 استقال محمد نجيب بعد أن اتسعت الخلافات بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وعُين جمال عبد الناصر رئيسًا لمجلس قيادة الثورة ورئيسًا لمجلس الوزراء.
وفى 24 يونيه/حزيران 1956 انتخب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية بالاستفتاء الشعبي وفقاً لدستور 16 يناير 1956 ـ أول دستور للثورة.
وفى 22 فبراير/شباط 1958 أصبح جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، وذلك حتى مؤامرة الانفصال التي قام بها أفراد من الجيش السوري في 28 سبتمبر/أيلول 1961، وظل جمال عبد الناصر رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة حتى رحل في 28 سبتمبر/أيلول 1970.
في عهده تم إنشاء التليفزيون المصري عام 1960، وسن قوانين يوليه الاشتراكية عام 1961، وتم إبرام اتفاقية الجلاء مع بريطانيا عام 1954، والتي بموجبها تم جلاء آخر جندي بريطاني عن قناة السويس ومصر كلها في الثامن عشر من يونيو/حزيران 1956، وتم بناء استاد القاهرة الرياضي بمدينة نصر"ستاد ناصر سابقًا"، وكذلك إنشاء كورنيش النيل وإنشاء برج القاهرة، وتأسيس جريدة الجمهورية المصرية عام 1954، وإنشاء معرض القاهرة الدولي للكتاب، وفي عهده تم التوسع في التعليم المجاني على كل المراحل، وكذلك التوسع المُطرد في مجال الصناعات التحويلية، حيث أنشأ أكثر من 3600 مصنعًا.
أما فيما يتعلق بقضايا التصنيع، فقد شهدت مصر في الفترة من مطلع الستينيات إلى ما قبل النكسة نهضة اقتصادية وصناعية كبيرة، بعد أن بدأت الدولة اتجاهًا جديدًا نحو السيطرة على مصادر الإنتاج ووسائله، من خلال التوسع في تأميم البنوك والشركات والمصانع الكبرى، وإنشاء عدد من المشروعات الصناعية الضخمة، وقد اهتم عبد الناصر بإنشاء المدارس والمستشفيات، وتوفير فرص العمل لأبناء الشعب، وتوَّج ذلك كله ببناء السد العالي الذي يُعد أهم وأعظم إنجازاته على الإطلاق؛ حيث حمى مصر من أخطار الفيضانات، بالإضافة إلى ما تميز به باعتباره المصدر الأول لتوليد الكهرباء في مصر، وهو ما يوفر الطاقة اللازمة للمصانع والمشروعات الصناعية الكبرى.
مُساندة للحركات الثورية في الوطن العربي:ساهم عبد الناصر في تدعيم القضية الفلسطينية، وفي حرب سنة 1948 وجُرح فيها. وعند توليه الرئاسة اعتبر القضية الفلسطينية من أولوياته لأسباب عديدة منها مبدئية ومنها إستراتيجية.
لقد اعتبر الرئيس جمال عبد الناصر من أبرز الزعماء المُنادين بالوحدة العربية وهذا هو الشعور السائد أنذاك بين معظم الشعوب العربية، حيث كان "مؤتمر باندونج" عام 1955 نقطة انطلاق عبدالناصر إلى العالم الخارجي.
استجاب عبد الناصر لدعوة العراق لتحقيق أضخم إنجاز وحدوي مع العراق وسوريا بعد تولي الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف رئاسة الجمهورية العراقية بما يُسمى باتفاق 16 أبريل 1964، ومن أهم انجازاته تأسيس منظمة عدم الانحياز مع الرئيس اليوغوسلافي تيتو والإندونيسي سوكارنو والهندي نهرو، والمُساهمة في تأسيس منظمة التعاون الإسلامي عام 1969، وكان لعبد الناصر دور بارز في مُساندة ثورة الجزائر وتبني قضية تحرير الشعب الجزائري في المحافل الدولية، وسعى كذلك إلى تحقيق الوحدة العربية؛ فكانت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير/شباط 1958 تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، وقد تولى هو رئاستها بعد أن تنازل الرئيس السوري شكري القوتلي له عن الحكم، إلا أنها لم تستمر أكثر من ثلاث سنوات.
كما ساند عبد الناصر الثورة العسكرية التي قام بها ثوار الجيش بزعامة المشير عبد الله السلال في اليمن بسنة 1962 ضد الحكم الإمامي الملكي حيث أرسل عبد الناصر نحو 70 ألف جندي مصري إلى اليمن لمقاومة النظام الملكي الذي لقي دعما من المملكة العربية السعودية، كما أيد حركة يوليه/تموز 1958 الثورية في العراق التي قادها الجيش العراقي بمؤازرة القوى السياسية لجبهة الاتحاد الوطني للاطاحة بالحُكم الملكي في 14 تموز 1958.
? إن الحق بغير القوة ضائع، والسلام بغير مقدرة الدفاع عنه إستسلام.
? إن الرجعية تتصادم مع مصالح جموع الشعب بحُكم إحتكارها لثروته.
? الوحدة موجودة فعلا بين أبناء الشعب العربي .. إن الخلافات قائمة بين النظم والحكومات .. إن النصر حركة، والحركة عمل، والعمل فكر، والفكر فهم وإيمان، وهكذا كل شيء يبدأ بالإنسان.
? إننى أؤمن إيمانًا قاطعًا أنه سيخرج من صفوف هذا الشعب أبطال مجهولون يشعرون بالحرية ويقدسون العزة ويؤمنون بالكرامة.
? إن الجماهير هي القوة الحقيقية، والسلطة بغير الجماهير هي مُجرد تسلط معادٍ لجوهر الحقيقة.
? إن الجامعات ليست أبراجًا عاجية، ولكنها الطليعة التي تقود الشعب نحو مُستقبل أفضل.
? لقد كان من أعظم الملامح فى تجربتنا أننا لم ننهمك في النظريات بحثاً عن واقعنا، ولكننا انهمكنا في واقعنا بحثاً عن النظريات .
? اللهم أعطنا القوة لندرك أن الخائفين لا يصنعون الحرية، والضعفاء لا يخلقون الكرامة، والمُترددين لن تقوى أيديهم المُرتعشة على البناء.
? إن القيادات الشعبية يجب ألا تنعزل بأي حال من الأحوال عن قواعدها، عليها أن تتذكر دائمًا سر قوتها.
? إن الأخذ من المجتمع بغير عطاء استغلال، والنمو على حساب الجماهير كما التخلي عن خدمة آمالها هروب.
? إن الإيمان بالله والأديان السماوية لاينبغي أن يكون مجرد قشرة خارجية أو مظهرية، لأن الدين فوق أنه عقيدة فهو سلوك في الحياة ومبادئ للأخلاق والعلاقات مع الناس.
? إن وجود مصر ضعيفة ضعف للنضال العربى كله، ووجود مصر مشلولة شلل للنضال العربى كله، وليست هذه حقيقة جديدة وإنما هي استقراء للتاريخ والطبيعة.
? إن القومية العربية لا يجسدها رجل واحد أو مجموعة من الرجال.
? إنّ حرية الرأي هي المُقدمة الأولى للديمقراطية.
? الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى ولتنتصر.
خاتمة:مات جمال عبد الناصر المُلقب بـ "حبيب الملايين" مُبكرًا وعاش طويلاً، ورحل عن الدنيا وعُمره 52 عامًا، لكن ظله حاضر حولنا، ورحلة كفاحه ونضاله من أجل من مصر ومن أجل الكرامة والحرية ستظل نبراسًا لكل وطني غيور على وطنه وحريته.
حسنى ثابت
عُرف عن عبد الناصر قوميته وانتماؤه للوطن العربي، بل أصبحت أفكاره مذهبَا سياسيًا سُمي بـ "الناصرية" مما جعله يكتسب الكثير من المؤيدين في الوطن العربي خلال فترة الخمسينيات والستينيات، وبرز اسمه ضمن أهم الشخصيات السياسية في الوطن العربي وفي العالم النامي للقرن العشرين والتي أثرت تأثيرًا كبيرًا في المسار السياسي العالمي، وهو من أصول "صعيدية" فكان به حمية الرجل الغيور المُتغلب عليه عادات وتقاليد المُجتمع المصري الطيب العريق.
وعبد الناصر هو أول رئيس جمهورية مصري مُنتخب للبلاد بعد حُكم الملك فاروق وزعيم ثورة 23 يوليو 1952، والتي من أهم نتائجها هي خلع الملك فاروق عن الحُكم، وبدء عهد جديد من التمدن في مصر والاهتمام بالقومية العربية والتي تضمنت فترة قصيرة من الوحدة بين مصر وسوريا ما بين سنتي 1958 و 1961، والتي عُرفت باسم "الجمهورية العربية المتحدة"، وكان رائدًا لحركات التحرير في الشرق الأوسط والدول الأفريقية.
وبالرغم من أن صورة جمال عبد الناصر كقائد اهتزت إبان "نكسة 67" إلا أنه أستطاع إستعادتها جزئيًا من خلال حرب الاستنزاف التي أعقبت النكسة وسبقت حرب 6 أكتوبر1973 ، وبغض النظر عن تأييد أو انتقادات موجهة له ولطريقة حُكمه، إلا أنه لا يزال يُنظر إليه بشكل عام كرمز للكرامة العربية والحرية من الاستعمار والإملاءات الخارجية.
وبالرجوع إلى التاريخ نجد أن تاريخ عبد الناصر منذ نعومة أظافره كان يتمتع بالحس الوطني والثورة بداخله منذ التحاقه بالمدرسة وحتى تخرجه من الكلية الحربية، فكل يوم من حياة عبد الناصر تحتاج للقراءة المُتأنية، ولكن لضيق المساحة والوقت اختزلنا هذه الرحلة الطويلة من الكفاح في سطور يسهل استيعابها.
بطاقة تعريف:
ولد جمال عبد الناصر في 15 يناير/كانون الثاني 1918 في 18 شارع قنوات في حي باكوس الشعبي بالإسكندرية، وكان الابن الأكبر لعبد الناصر حسين الذي ولد عام 1888 في قرية "بني مر" بمركز الفتح - تبعد عن مدينة أسيوط بحوالي 10 كيلو مترات - في محافظة أسيوط في صعيد مصر في أسرة من الفلاحين، ولكنه حصل على قدر من التعليم سمح له بأن يلتحق بوظيفة في مصلحة البريد بالإسكندرية، وكان مرتبه يكفى بصعوبة لسداد ضرورات الحياة .عبد الناصر فى المرحلة الابتدائيةالتحق جمال عبد الناصر بروضة الأطفال بمحرم بك بالإسكندرية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية بالخطاطبة في عامي 1923، 1924، ثم التحق فى عام 1925 بمدرسة النحاسين الابتدائية بالجمالية بالقاهرة، وأقام عند عمه خليل حسين في حي شعبي لمدة ثلاث سنوات، وكان جمال يُسافر لزيارة أسرته بالخطاطبة في العطلات المدرسية، وحينما عاد في الإجازة الصيفية خلال عام 1926علم أن والدته قد توفيت قبل ذلك بأسابيع لعدم وجود الشجاعة عند أحد لإبلاغه بوفاتها، ولكنه اكتشف ذلك بنفسه بطريقة هزت كيانه - كما ذكر لـ "دافيد مورجان" مندوب صحيفة "الصنداى تايمز" - وحينها قال له: "لقد كان فقد أمي في حد ذاته أمرًا مُحزنًا للغاية، أما فقدها بهذه الطريقة فقد كان صدمة تركت فيَّ شعورًا لا يمحوه الزمن .. وقد جعلتني آلامي وأحزاني الخاصة في تلك الفترة أجد مضضًا بالغًا في إنزال الآلام والأحزان بالغير في مُستقبل السنين"، وبعد أن أتم جمال السنة الثالثة في مدرسة النحاسين بالقاهرة، أرسله والده في صيف 1928 عند جده لوالدته فقضى السنة الرابعة الابتدائية في مدرسة العطارين بالإسكندرية.
الثانوية .. مرحلة تكوين وجدان:
التحق عبد الناصر في عام 1929 بالقسم الداخلي في مدرسة حلوان الثانوية وقضى بها عامًا واحدًا، ثم نقل في العام التالي إلى مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية بعد أن انتقل والده إلى العمل بـ "مصلحة البوسطة" هناك، وفى تلك الفترة تكون وجدان جمال عبد الناصر القومي؛ ففي عام 1930 استصدرت وزارة "إسماعيل صدقي" مرسومًا ملكيًا بإلغاء دستور 1923 فثارت مظاهرات الطلبة تهتف بسقوط الاستعمار وبعودة الدستور.
ويذكر عبد الناصر - في حديثه مع دافيد مورجان مندوب صحيفة الصنداى تايمز 18/6/1962 - عن أول مظاهرة اشترك فيها: "كنت أعبر ميدان المنشية في الإسكندرية حين وجدت اشتباكًا بين مظاهرة لبعض التلاميذ وبين قوات من البوليس، ولم أتردد في تقرير موقفي؛ فلقد انضممت على الفور إلى المتظاهرين، دون أن أعرف أي شئ عن السبب الذي كانوا يتظاهرون من أجله، ولقد شعرت أنني في غير حاجة إلى سؤال؛ لقد رأيت أفراداً من الجماهير في صدام مع السلطة، واتخذت موقفي دون تردد في الجانب المُعادى للسلطة".
ومرت لحظات سيطرت فيها المظاهرة على الموقف، لكن سرعان ما جاءت إلى المكان الإمدادات؛ حمولة لوريين من رجال البوليس لتعزيز القوة، وهجمت علينا جماعتهم، وإني لأذكر أنى - في محاولة يائسة - ألقيت حجراً، لكنهم أدركونا في لمح البصر، وحاولت أن أهرب، لكني حين التفت هوت على رأسي عصا من عصى البوليس، تلتها ضربة ثانية حين سقطت، ثم شحنت إلى الحجز والدم يسيل من رأسي مع عدد من الطلبة الذين لم يستطيعوا الإفلات بالسرعة الكافية، ولما كنت في قسم البوليس، وأخذوا يعالجون جراح رأسي؛ سألت عن سبب المظاهرة، فعرفت أنها مظاهرة نظمتها "جماعة مصر الفتاة" في ذلك الوقت للاحتجاج على سياسة الحكومة، وكانت النتيجة أنني دخلت السجن تلميذاً متحمساً، وخرجت منه مشحوناً بطاقة من الغضب".
ويعود جمال إلى هذه الفترة من حياته في خطاب له بميدان المنشية بالإسكندرية في 26/10/1954 ليصف أحاسيسه في تلك المظاهرة وما تركته من آثار في نفسه: "حينما بدأت في الكلام اليوم في ميدان المنشية. سرح بي الخاطر إلى الماضي البعيد ... وتذكرت كفاح الإسكندرية وأنا شاب صغير وتذكرت في هذا الوقت وأنا اشترك مع أبناء الإسكندرية، وأنا أهتف لأول مرة في حياتي باسم الحرية وباسم الكرامة، وباسم مصر... أطلقت علينا طلقات الاستعمار وأعوان الاستعمار فمات من مات وجُرح من جُرح، ولكن خرج من بين هؤلاء الناس شاب صغير شعر بالحرية وأحس بطعم الحرية، وآلى على نفسه أن يُجاهد وأن يُكافح وأن يُقاتل في سبيل الحرية التي كان يهتف بها ولا يعلم معناها؛ لأنه كان يشعر بها في نفسه، وكان يشعر بها في روحه وكان يشعر بها في دمه". لقد كانت تلك الفترة بالإسكندرية مرحلة تحول في حياة الطالب جمال من متظاهر إلى ثائر تأثر بحالة الغليان التي كانت تعانى منها مصر بسبب تحكم الاستعمار وإلغاء الدستور.
"فولتير" و "يوليوس قيصر"على الرغم من شعور عبد الناصر بتحكم الاستعمار وإلغاء الدستور وتضييق المسئولين بالمدرسة بنشاطه والتنبيه على والده بذلك، وإرساله والده إلى القاهرة ليلتحق بمدرسة النهضة الثانوية بحي الظاهر بالقاهرة في عام 1933، إلا أنه استمر في نشاطه السياسي فأصبح رئيس اتحاد مدارس النهضة الثانوية.
وفى تلك الفترة ظهر شغفه بالقراءة في التاريخ والموضوعات الوطنية فقرأ عن الثورة الفرنسية وعن "روسو" و"فولتير" وكتب مقالة بعنوان "فولتير رجل الحرية" نشرها بمجلة المدرسة. كما قرأ عن "نابليون" و"الإسكندر" و"يوليوس قيصر" و"غاندى" وقرأ رواية البؤساء لـ "فيكتور هيوجو" وقصة مدينتين لـ "شارلز ديكنز".
كذلك اهتم بالإنتاج الأدبي العربي فكان مُعجباً بأشعار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وقرأ عن سيرة النبي محمد وعن أبطال الإسلام وكذلك عن مصطفى كامل، كما قرأ مسرحيات وروايات توفيق الحكيم خصوصًا رواية عودة الروح التي تتحدث عن ضرورة ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم ودفعهم نحو النضال في سبيل الحرية والبعث الوطني، وفي عام 1935 في حفل مدرسة النهضة الثانوية لعب الطالب جمال عبد الناصر دور "يوليوس قيصر" بطل تحرير الجماهير في مسرحية "شكسبير" في حضور وزير المعارف في ذلك الوقت.
وفي أعقاب إعلان رفض بريطانيا لعودة الحياة الدستورية في 9 نوفمبر/تشرين الأول 1935، اندلعت مظاهرات الطلبة والعمال في البلاد، وقاد جمال عبد الناصر في 13 نوفمبر/تشرين الأول 1935 مظاهرة من تلاميذ المدارس الثانوية واجهتها قوة من البوليس الإنجليزي فأصيب جمال بجرح في جبينه سببته رصاصة مزقت الجلد ولكنها لم تنفذ إلى الرأس، وأسرع به زملاؤه إلى دار جريدة الجهاد التي تصادف وقوع الحادث بجوارها ونشر اسمه في العدد الذي صدر صباح اليوم التالي بين أسماء الجرحى "مجلة الجهاد 1935".
وتتجلى آثار أحداث تلك الفترة في نفسية عبد الناصر حينما قال في كلمة له في جامعة القاهرة في 15 نوفمبر 1952: "وقد تركت إصابتي أثراً عزيزاً لا يزال يعلو وجهي فيذكرني كل يوم بالواجب الوطني المُلقى على كاهلي كفرد من أبناء هذا الوطن العزيز .. وفى هذا اليوم وقع صريع الظلم والاحتلال المرحوم عبد المجيد مرسي فأنساني ما أنا مُصاب به، ورسخ في نفسي أن علىِّ واجبًا أفنى في سبيله أو أكون أحد العاملين في تحقيقه حتى يتحقق؛ وهذا الواجب هو تحرير الوطن من الاستعمار، وتحقيق سيادة الشعب. وتوالى بعد ذلك سقوط الشهداء صرعى؛ فازداد إيماني بالعمل على تحقيق حرية مصر".
وتحت الضغط الشعبي وخاصة من جانب الطلبة والعمال صدر مرسوم ملكي في 12 ديسمبر/كانون الأول 1935 بعودة دستور 1923، وقد انضم جمال في هذا الوقت إلى وفود الطلبة التي كانت تسعى إلى بيوت الزعماء تطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر، وقد تألفت الجبهة الوطنية سنة 1936 بالفعل على أثر هذه الجهود.
فصله من المدرسةوكان من نتيجة النشاط السياسي المكثف لجمال عبد الناصر في هذه الفترة الذي رصدته تقارير البوليس أن قررت مدرسة النهضة فصله بتهمة تحريضه الطلبة على الثورة، إلا أن زملائه ثاروا وأعلنوا الإضراب العام وهددوا بحرق المدرسة فتراجع ناظر المدرسة في قراره.
ومنذ المظاهرة الأولى التي اشترك فيها جمال عبد الناصر بالإسكندرية شغلت السياسة كل وقته، وتجول بين التيارات السياسية التي كانت موجودة في هذا الوقت فانضم إلى "مصر الفتاة" على مدى عامين، ثم انصرف عنها بعد أن اكتشف أنها لا تحقق شيئاً، كما كانت له اتصالات مُتعددة بالإخوان المسلمين إلا أنه قد عزف عن الانضمام لأي من الجماعات أو الأحزاب القائمة لأنه لم يقتنع بجدوى أياً منها، "فلم يكن هناك حزب مثالي يضم جميع العناصر لتحقيق الأهداف الوطنية" .. كذلك فإنه وهو طالب في المرحلة الثانوية بدأ الوعي العربي يتسلل إلى تفكيره، فكان يخرج مع زملائه كل عام في الثاني من شهر نوفمبر احتجاجًا على وعد "بلفور" الذي منحت به بريطانيا لليهود وطنًا في فلسطين على حساب أصحابه الشرعيين.
الحياة العسكرية لناصر:
بعدما أتم جمال عبد الناصر دراسته الثانوية وحصل على البكالوريا في القسم الأدبي قرر الالتحاق بالجيش، ولقد أيقن بعد التجربة التي مر بها في العمل السياسي واتصالاته برجال السياسة والأحزاب التي أثارت اشمئزازه منهم أن تحرير مصر لن يتم بالخطب بل يجب أن تقابل القوة بالقوة والاحتلال العسكري بجيش وطني، فتقدم جمال عبد الناصر إلى الكلية الحربية ونجح في الكشف الطبي ولكنه سقط في كشف الهيئة لأنه حفيد فلاح من "بني مر" وابن موظف بسيط لا يملك شيئًا، ولأنه اشترك في مظاهرات 1935، ولأنه لا يملك وساطة، ولما رفضت الكلية الحربية قبول جمال، تقدم في أكتوبر 1936 إلى كلية الحقوق في جامعة القاهرة ومكث فيها ستة أشهر إلى أن عقدت معاهدة 1936، واتجهت النية إلى زيادة عدد ضباط الجيش المصري من الشباب بصرف النظر عن طبقتهم الاجتماعية أو ثروتهم، فقبلت الكلية الحربية دفعة في خريف 1936 وأعلنت وزارة الحربية عن حاجتها لدفعة ثانية، فتقدم جمال مرة ثانية للكلية الحربية ولكنه توصل إلى مُقابلة وكيل وزارة الحربية "اللواء إبراهيم خيري" الذي أعجب بصراحته ووطنيته وإصراره على أن يُصبح ضابطًا فوافق على دخوله في الدورة التالية؛ أي في مارس 1937.لقد وضع جمال عبد الناصر أمامه هدفًا واضحًا في الكلية الحربية وهو "أن يُصبح ضابطاً ذا كفاية، وأن يكتسب المعرفة والصفات التي تسمح له بأن يُصبح قائدًا"، وفعلاً أصبح "رئيس فريق"، وأسندت إليه منذ أوائل 1938 مهمة تأهيل الطلبة المُستجدين الذين كان من بينهم عبد الحكيم عامر، وطوال فترة الكلية لم يوقع على جمال أي جزاء، كما رُقى إلى رتبة "أومباشى طالب".
تخرج جمال عبد الناصر من الكلية الحربية بعد مرور 17 شهرًا، أي في يوليه/تموز 1938، فقد جرى استعجال تخريج دفعات الضباط في ذلك الوقت لتوفير عدد كافي من الضباط المصريين لسد الفراغ الذي تركه انتقال القوات البريطانية إلى منطقة قناة السويس.
التحق جمال عبد الناصر فور تخرجه بسلاح المشاة ونقل إلى منقباد في الصعيد، وقد أتاحت له إقامته هناك أن ينظر بمنظار جديد إلى أوضاع الفلاحين وبؤسهم، وقد التقى في منقباد بكل من زكريا محيى الدين وأنور السادات، وفى عام 1939 طلب عبد الناصر نقله إلى السودان، فخدم في الخرطوم وفى جبل الأولياء، وهناك قابل زكريا محيى الدين وعبد الحكيم عامر، وفى مايو/آيار 1940 رقى إلى رتبة الملازم أول.
وواصل عبد الناصر تقدمه في الحياة العسكرية إلى أن رُقى إلى رتبة اليوزباشى (نقيب) في 9 سبتمبر/أيلول 1942. وفى 7 فبراير/شباط 1943 عُين مدرسًا بالكلية الحربية. ومن قائمة مُطالعاته في هذه الفترة يتضح أنه قرأ لكبار المؤلفين العسكريين من أمثال "ليدل هارت" و"كلاوزفيتز"، كما قرأ مؤلفات الساسة والكتاب السياسيين مثل "كرومويل" و"تشرشل". وفى هذه الفترة كان جمال عبد الناصر يعد العدة للالتحاق بمدرسة أركان حرب.
وفى 29 يونيه 1944 تزوج جمال عبد الناصر من تحية محمد كاظم - ابنة تاجر من رعايا إيران - كان قد تعرف على عائلتها عن طريق عمه خليل حسين، وقد أنجب ابنتيه هدى ومنى وثلاثة أبناء هم خالد وعبد الحميد وعبد الحكيم. لعبت تحية دورًا هامًا في حياته خاصة في مرحلة الإعداد للثورة واستكمال خلايا تنظيم الضباط الأحرار، فقد تحملت أعباء أسرته الصغيرة - هدى ومنى - عندما كان في حرب فلسطين، كما ساعدته في إخفاء السلاح حين كان يدرب الفدائيين المصريين للعمل ضد القاعدة البريطانية في قناة السويس في 1951، 1952.
تنظيم الضباط الأحرار:شهد عام 1945 انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية حركة الضباط الأحرار، ويقول جمال عبد الناصر في حديثة إلى "دافيد مورجان": "وقد ركزت حتى 1948 على تأليف نواة من الناس الذين بلغ استياؤهم من مجرى الأمور في مصر مبلغ استيائي، والذين توفرت لديهم الشجاعة الكافية والتصميم الكافي للإقدام على التغيير اللازم. وكنا يومئذ جماعة صغيرة من الأصدقاء المخلصين نحاول أن نخرج مثلنا العُليا العامة في هدف مُشترك وفى خطة مشتركة".
وعقب صدور قرار تقسيم فلسطين في سبتمبر 1947 عقد الضباط الأحرار اجتماعًا واعتبروا أن اللحظة جاءت للدفاع عن حقوق العرب ضد هذا الانتهاك للكرامة الإنسانية والعدالة الدولية، واستقر رأيهم على مُساعدة المقاومة في فلسطين.
وقد جُرح جمال عبد الناصر مرتين أثناء حرب فلسطين ونقل إلى المستشفى. ونظرًا للدور المُتميز الذي قام به خلال المعركة فإنه مُنح نيشان "النجمة العسكرية" في عام 1949.
وبعد عودته من فلسطين عين جمال عبد الناصر مدرسًا في كلية أركان حرب التي كان قد نجح في امتحانها بتفوق في 12 مايو/آيار 1948. وبدأ من جديد نشاط الضباط الأحرار وتألفت لجنة تنفيذية بقيادة جمال عبد الناصر، وتضم [كمال الدين حسين/عبد الحكيم عامر/حسين إبراهيم/صلاح سالم/عبد اللطيف البغدادي/خالد محيى الدين/أنور السادات/حسين الشافعي/زكريا محيى الدين/جمال سالم] وهى اللجنة التي أصبحت مجلس الثورة فيما بعد عام 1950، 1951.
وفى 8 مايو 1951 رُقى جمال عبد الناصر إلى رتبة البكباشى (مُقدم) وفى نفس العام اشترك مع رفاقه من الضباط الأحرار سرًا في حرب الفدائيين ضد القوات البريطانية في منطقة القناة التي استمرت حتى بداية 1952، وذلك بتدريب المتطوعين وتوريد السلاح الذي كان يتم في إطار الدعوى للكفاح المُسلح من جانب الشباب من كافة الاتجاهات السياسية والذي كان يتم خارج الإطار الحكومي.
ناصر وثورة يوليه 1952:
ومع بداية مرحلة التعبئة الثورية، صدرت منشورات الضباط الأحرار التي كانت تطبع وتوزع سرًا، والتي دعت إلى إعادة تنظيم الجيش وتسليحه وتدريبه بجدية بدلاً من اقتصاره على الحفلات والاستعراضات، كما دعت الحُكام إلى الكف عن تبذير ثروات البلاد ورفع مستوى معيشة الطبقات الفقيرة، وانتقدت الاتجار في الرُتب والنياشين. وفى تلك الفترة اتسعت فضيحة الأسلحة الفاسدة إلى جانب فضائح اقتصادية تورطت فيها حكومة الوفد.ثم حدث حريق القاهرة في 26 يناير/كانون الثاني 1952 بعد اندلاع المظاهرات في القاهرة احتجاجًا على مذبحة رجال البوليس بالإسماعيلية التي ارتكبتها القوات العسكرية البريطانية في اليوم السابق، والتي قتل فيها 46 شرطيًا وجُرح 72 آخرين. لقد أشعلت الحرائق في القاهرة ولم تتخذ السلطات أي إجراء ولم تصدر الأوامر للجيش بالنزول إلى العاصمة إلا في العصر بعد أن دمرت النار 400 مبنى، وتركت 12 ألف شخص بلا مأوى، وقد بلغت الخسائر 22 مليون جنيهًا.
وفى ذلك الوقت كان يجرى صراعًا سافرًا بين الضباط الأحرار وبين الملك فاروق فيما عُرف بأزمة انتخابات نادي ضباط الجيش. حيث رشح الملك اللواء حسين سرى عامر المكروه من ضباط الجيش ليرأس اللجنة التنفيذية للنادي، وقرر الضباط الأحرار أن يقدموا قائمة مُرشحيهم وعلى رأسهم اللواء محمد نجيب للرئاسة، وقد تم انتخابه بأغلبية كبرى وبرغم إلغاء الانتخاب بتعليمات من الملك شخصيًا، إلا أنه كان قد ثبت للضباط الأحرار أن الجيش معهم يؤيدهم ضد الملك، فقرر جمال عبد الناصر - رئيس الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار - تقديم موعد الثورة التي كان مُحددًا لها قبل ذلك عام 1955، وتحرك الجيش ليلة 23 يوليو/تموز 1952 وتم احتلال مبنى قيادة الجيش بكوبري القبة وإلقاء القبض على قادة الجيش الذين كانوا مُجتمعين لبحث مواجهة حركة الضباط الأحرار بعد أن تسرب خبر عنها .
وبعد نجاح حركة الجيش قدم محمد نجيب على أنه قائد الثورة - وكان الضباط الأحرار قد فاتحوه قبلها بشهرين في احتمال انضمامه إليهم إذا ما نجحت المحاولة - إلا أن السلطة الفعلية كانت في يد مجلس قيادة الثورة الذي كان يرأسه جمال عبد الناصر حتى 25 أغسطس/آب 1952 عندما صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بضم محمد نجيب إلى عضوية المجلس وأسندت إليه رئاسته بعد أن تنازل له عنها جمال عبد الناصر.
وتضمن قرار مجلس قيادة الثورة تعيين جمال عبد الناصر رئيسًا لمجلس قيادة الثورة: وفي فبراير/شباط 1954 استقال محمد نجيب بعد أن اتسعت الخلافات بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وعُين جمال عبد الناصر رئيسًا لمجلس قيادة الثورة ورئيسًا لمجلس الوزراء.
وفى 24 يونيه/حزيران 1956 انتخب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية بالاستفتاء الشعبي وفقاً لدستور 16 يناير 1956 ـ أول دستور للثورة.
وفى 22 فبراير/شباط 1958 أصبح جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، وذلك حتى مؤامرة الانفصال التي قام بها أفراد من الجيش السوري في 28 سبتمبر/أيلول 1961، وظل جمال عبد الناصر رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة حتى رحل في 28 سبتمبر/أيلول 1970.
أهم إنجازات عبد الناصر:
حفل تاريخ عبد الناصر بالعديد من الإنجازات، بدأت بجلاء القوات البريطانية مصر في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1954، وقام بتأميم قناة السويس وإنشاء السد العالي على نهر النيل، وقام بإنشاء بحيرة ناصر وهي أكبر بحيرة صناعية في العالم، وتأميم البنوك الخاصة والأجنبية العاملة في مصر، وسن قوانين الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية الزراعية، والتي بموجبها صار فلاحو مصر يمتلكون للمرة الأولى الأرض التي يفلحونها ويعملون عليها وتم تحديد ملكيات الاقطاعيين بـ 200 فدان فقط، وتم استصلاح 920 ألف فدان، وتحويل نصف مليون فدان من ري الحياض إلى الري الدائم" لتصل إلى مساحة مليون و 400 ألف فدان.في عهده تم إنشاء التليفزيون المصري عام 1960، وسن قوانين يوليه الاشتراكية عام 1961، وتم إبرام اتفاقية الجلاء مع بريطانيا عام 1954، والتي بموجبها تم جلاء آخر جندي بريطاني عن قناة السويس ومصر كلها في الثامن عشر من يونيو/حزيران 1956، وتم بناء استاد القاهرة الرياضي بمدينة نصر"ستاد ناصر سابقًا"، وكذلك إنشاء كورنيش النيل وإنشاء برج القاهرة، وتأسيس جريدة الجمهورية المصرية عام 1954، وإنشاء معرض القاهرة الدولي للكتاب، وفي عهده تم التوسع في التعليم المجاني على كل المراحل، وكذلك التوسع المُطرد في مجال الصناعات التحويلية، حيث أنشأ أكثر من 3600 مصنعًا.
أما فيما يتعلق بقضايا التصنيع، فقد شهدت مصر في الفترة من مطلع الستينيات إلى ما قبل النكسة نهضة اقتصادية وصناعية كبيرة، بعد أن بدأت الدولة اتجاهًا جديدًا نحو السيطرة على مصادر الإنتاج ووسائله، من خلال التوسع في تأميم البنوك والشركات والمصانع الكبرى، وإنشاء عدد من المشروعات الصناعية الضخمة، وقد اهتم عبد الناصر بإنشاء المدارس والمستشفيات، وتوفير فرص العمل لأبناء الشعب، وتوَّج ذلك كله ببناء السد العالي الذي يُعد أهم وأعظم إنجازاته على الإطلاق؛ حيث حمى مصر من أخطار الفيضانات، بالإضافة إلى ما تميز به باعتباره المصدر الأول لتوليد الكهرباء في مصر، وهو ما يوفر الطاقة اللازمة للمصانع والمشروعات الصناعية الكبرى.
مُساندة للحركات الثورية في الوطن العربي:ساهم عبد الناصر في تدعيم القضية الفلسطينية، وفي حرب سنة 1948 وجُرح فيها. وعند توليه الرئاسة اعتبر القضية الفلسطينية من أولوياته لأسباب عديدة منها مبدئية ومنها إستراتيجية.
لقد اعتبر الرئيس جمال عبد الناصر من أبرز الزعماء المُنادين بالوحدة العربية وهذا هو الشعور السائد أنذاك بين معظم الشعوب العربية، حيث كان "مؤتمر باندونج" عام 1955 نقطة انطلاق عبدالناصر إلى العالم الخارجي.
استجاب عبد الناصر لدعوة العراق لتحقيق أضخم إنجاز وحدوي مع العراق وسوريا بعد تولي الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف رئاسة الجمهورية العراقية بما يُسمى باتفاق 16 أبريل 1964، ومن أهم انجازاته تأسيس منظمة عدم الانحياز مع الرئيس اليوغوسلافي تيتو والإندونيسي سوكارنو والهندي نهرو، والمُساهمة في تأسيس منظمة التعاون الإسلامي عام 1969، وكان لعبد الناصر دور بارز في مُساندة ثورة الجزائر وتبني قضية تحرير الشعب الجزائري في المحافل الدولية، وسعى كذلك إلى تحقيق الوحدة العربية؛ فكانت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير/شباط 1958 تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، وقد تولى هو رئاستها بعد أن تنازل الرئيس السوري شكري القوتلي له عن الحكم، إلا أنها لم تستمر أكثر من ثلاث سنوات.
كما ساند عبد الناصر الثورة العسكرية التي قام بها ثوار الجيش بزعامة المشير عبد الله السلال في اليمن بسنة 1962 ضد الحكم الإمامي الملكي حيث أرسل عبد الناصر نحو 70 ألف جندي مصري إلى اليمن لمقاومة النظام الملكي الذي لقي دعما من المملكة العربية السعودية، كما أيد حركة يوليه/تموز 1958 الثورية في العراق التي قادها الجيش العراقي بمؤازرة القوى السياسية لجبهة الاتحاد الوطني للاطاحة بالحُكم الملكي في 14 تموز 1958.
أقوال مأثورة لعبد الناصر:
? إن شعبنا يعرف قيمة الحياة لأنه يحاول بناءها على أرضه.? إن الحق بغير القوة ضائع، والسلام بغير مقدرة الدفاع عنه إستسلام.
? إن الرجعية تتصادم مع مصالح جموع الشعب بحُكم إحتكارها لثروته.
? الوحدة موجودة فعلا بين أبناء الشعب العربي .. إن الخلافات قائمة بين النظم والحكومات .. إن النصر حركة، والحركة عمل، والعمل فكر، والفكر فهم وإيمان، وهكذا كل شيء يبدأ بالإنسان.
? إننى أؤمن إيمانًا قاطعًا أنه سيخرج من صفوف هذا الشعب أبطال مجهولون يشعرون بالحرية ويقدسون العزة ويؤمنون بالكرامة.
? إن الجماهير هي القوة الحقيقية، والسلطة بغير الجماهير هي مُجرد تسلط معادٍ لجوهر الحقيقة.
? إن الجامعات ليست أبراجًا عاجية، ولكنها الطليعة التي تقود الشعب نحو مُستقبل أفضل.
? لقد كان من أعظم الملامح فى تجربتنا أننا لم ننهمك في النظريات بحثاً عن واقعنا، ولكننا انهمكنا في واقعنا بحثاً عن النظريات .
? اللهم أعطنا القوة لندرك أن الخائفين لا يصنعون الحرية، والضعفاء لا يخلقون الكرامة، والمُترددين لن تقوى أيديهم المُرتعشة على البناء.
? إن القيادات الشعبية يجب ألا تنعزل بأي حال من الأحوال عن قواعدها، عليها أن تتذكر دائمًا سر قوتها.
? إن الأخذ من المجتمع بغير عطاء استغلال، والنمو على حساب الجماهير كما التخلي عن خدمة آمالها هروب.
? إن الإيمان بالله والأديان السماوية لاينبغي أن يكون مجرد قشرة خارجية أو مظهرية، لأن الدين فوق أنه عقيدة فهو سلوك في الحياة ومبادئ للأخلاق والعلاقات مع الناس.
? إن وجود مصر ضعيفة ضعف للنضال العربى كله، ووجود مصر مشلولة شلل للنضال العربى كله، وليست هذه حقيقة جديدة وإنما هي استقراء للتاريخ والطبيعة.
? إن القومية العربية لا يجسدها رجل واحد أو مجموعة من الرجال.
? إنّ حرية الرأي هي المُقدمة الأولى للديمقراطية.
? الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى ولتنتصر.
خاتمة:مات جمال عبد الناصر المُلقب بـ "حبيب الملايين" مُبكرًا وعاش طويلاً، ورحل عن الدنيا وعُمره 52 عامًا، لكن ظله حاضر حولنا، ورحلة كفاحه ونضاله من أجل من مصر ومن أجل الكرامة والحرية ستظل نبراسًا لكل وطني غيور على وطنه وحريته.
حسنى ثابت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق